لم أنم ليلة كتابة هذا المقال، فقد أرقنى الشعور بأن كلماتى عن هذا الراحل العظيم قد لا تفيه حقه من العرفان بفضله وقيمته
لم أنم ليلة كتابة هذا المقال، فقد أرقنى الشعور بأن كلماتى عن هذا الراحل العظيم قد لا تفيه حقه من العرفان بفضله وقيمته .
صحيح أن مكانته لا تنتظر كلماتى حتى تسطع عاليا وتحتل مكانها الرفيع فى تاريخ الوطن، لكن المشكلة أن عرفانى يجب أن يأتى بقدر قامته الشامخة ، ولأن نهرا من الكلمات يريد أن يتدفق من داخلى فقد قررت أن أخصص هذا المقال لبطرس غالى الإنسان، وهو الجانب الذى قد لا يعرفه من لم يخالطه شخصيا .
نصف قرن هو عمر علاقتى به منذ رأيته لأول مرة فى 1965 وهو يهبط الدرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، باديا أصغر من عمره بكثير شديد الأناقة فى غير تكلف ، وكنت أتابعه قبيل دخولى الكلية من خلال مجلة «السياسة الدولية » ثم درس لى فى السنة الثالثة فبهرنى وزملائى لا بعلمه الغزير فحسب، وإنما أيضا بقدرته على تبسيط هذا العلم الرفيع ليفهمه طلاب مازالوا فى مرحلتهم الجامعية الأولى ، وكان ينهى محاضرته بطلب أسئلة منا فإن لم نفعل سألنا وهو ما دفعنا مبكرا إلى التفكير النقدى ، وعندما تخرجت وعينت معيدا بالكلية بدأ يعهد لى كغيرى بكتابة تقارير للسياسة الدولية التى كانت أول ميدان لتدريبنا على البحث العلمى ، وعندما أحال لى يوما دراسة أعدتها شخصية دبلوماسية مرموقة لإعادة هيكلتها وأبديت حرجا من ضآلة مقامى إذا قورن بكاتب الدراسة قال لى : لديك « حس بنائى » sense ،of construction ومثل قوله هذا تشجيعا هائلاا لى فى بداية حياتى الأكاديمية ، ولما جاء أوان دراسة الماجستير شرفنى بقبول الإشراف على رسالتى، وتكرر هذا الشرف فى مرحلة الدكتوراه، واخترنا موضوع الرسالة فى المرتين بعد مناقشات مطولة سمح لى فيها بحرية مطلقة ، وأذكر أنه رفض مرة موضوعا كنت شديد التحمس له فسألته، عن السبب فرد على بقوله : يا سلام ! أوَ لا ترفض مقترحاتى دون سبب ؟ وعندما حل موعد مناقشة رسالة الدكتوراه فى أبريل 1978 كان قد أصبح وزيرا وحضر المناقشة بتواضعه المعهود وسمح للطلاب بعد المناقشة بالتحلق حوله لالتقاط الصور حتى إن أحدهم جلس بركبته على كرسى خلفه بحيث أصبح النصف الأعلى للطالب فوق رأس الدكتور بطرس، وحانت منى ساعتها التفاتة لحراسه المساكين الذين كانوا فى قمة اضطرابهم .
لم أر أحدا فى تسامحه فقد كان بعض زملائه يغارون منه ويسيئون إليه أحيانا، فلما أصبح وزيرا قصده أحدهم فى حاجة ملحة له فلباها على الفور دون مَنٍ بأحسن مما كان صاحب الحاجة يتصور ، ولم أر أحدا فى نزاهته، فقد كلفنى يوما بتحديث بعض أجزاء كتابه الشهير عن مدخل علم السياسة الذى اشترك فى تأليفه مع رفيق عمره الدكتور خيرى عيسى، وإضافة أجزاء جديدة إليه، وطرت فرحاً بالتكليف واعتبرته شرفا لا يدانيه شرف فإذا بى أُبصر اسمى فى مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب مقرونا بمساهمتى فيها، ثم كانت المفاجأة الكبرى بعد عام عندما فوجئت بالمرحوم صبحى جريس أنزه ناشر مصرى عرفته يهاتفنى ويطلب منى الحضور لتسلم شيك وعندما تساءلت اكتشفت أن الدكتور بطرس قسم عائد الطبعة الجديدة بالتساوى بينى وبينه والدكتور خيرى عيسى ، وتكرر هذا العائد طيلة السنوات التى بقى فيها هذا الكتاب يدرس فى الكلية وفى كليات مصرية وعربية أخرى ، ولم أر أحدا فى عدله فقد شكا لى أحد طلابى النابهين يوما من أنه جاء فى المرتبة الأولى فى الامتحان التحريرى للمتقدمين للالتحاق بوزارة الخارجية لكنه رسب فى الامتحان الشفهى، وأنه يعتقد أن وضعه الاجتماعى هو السبب، وأنه أعاد الكرة فتصدر الامتحان للمرة الثانية لكنه يخشى تكرار رسوبه، فقلت له لا تقلق وأخبرت الدكتور بطرس بشكواه ، وجاءنى بعد أداء الامتحان الشفهى للمرة الثانية مكتئبا لأن الدكتور بطرس الذى أصر على حضور الامتحان تعمد أن يسأله عن عمل والده، فقلت له أنت إذن لا تعرفه فقد أعطاك بالتأكيد الدرجة التى تستحقها وسؤاله رسالة لباقى أعضاء اللجنة كى يدركوا أن المستوى الاجتماعى لا علاقة له بتقييمك ، وقد كان وتصدر صاحبنا الترتيب النهائى للامتحان وأصبح لاحقا من أبرز الدبلوماسيين وأنجحهم ، ولم أر أحدا فى موضوعيته، وقد لفتنى بعد أن انتهيت من إعداد رسالة الماجستير وكانت عن السياسة السوفيتية تجاه إسرائيل إلى أننى لم أدرس أثر المسلمين السوفيت على هذه السياسة، فقلت له لا أثر لهم فرد بقوله هل درست ذلك ؟ فأجبت بالنفى، فقال لى ادرسهم إذن ثم توصل إلى النتيجة ، ويبدو أن علامة ما للدهشة قد بدت علىّ فقال لى لا يمكنك أن تتجاهل المكون الإسلامى فى هذه الظاهرة وقد كان البعض لا يريدنى أن أُضَمن كتاب المدخل فى علم السياسة فصلا عن الفكر السياسى الإسلامى فألفته بنفسى ، وكان بالمناسبة والقول لى من أقوى فصول الكتاب .
انحسرت الاتصالات المباشرة بينى وبينه بعد أن أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة ثم للمنظمة الفرانكوفونية، إلى أن جمعنا القدر مجددا بتوليه رئاسة المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى عينت عضوا فيه ، وفى السنوات الثلاث لعضويتى بالمجلس بهرنى من جديد وكأنى مازلت طالب السنة الثالثة فى الكلية، وكان واضحا أن خبرته فى الأمم المتحدة قد زادته تألقا وامتيازا . زرته مرتين فى الشهور الأخيرة السابقة على العملية الجراحية الدقيقة التى أجراها فى باريس، وكانت علامات الإنهاك ظاهرة على جسده النحيل الذى حمل عبء نشاط متقد لرجلٍ ملأ الدنيا بعطائه ورغم هذا أصر كما كان يفعل دائما على القيام من خلف مكتبه كى يجلس أمامى ، ولما اعترضت ابتسم قائلاً : أَنُعَلِم الناس البروتوكول ولا نحترمه ؟ وفى المرة الثانية كاد يسقط أرضا عندما هم واقفاً لوداعى فأسرعت إليه وساندته حتى عاد إلى مكتبه وقبلت رأسه ويده .
رحمك الله أستاذى الجليل وجزاك خيرا عن كل من يدينون بالفضل لعلمك وخبرتك وخُلُقك .
*بنشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة