فى سوريا الخير، حين يطرق الربيع بابنا باكرا وترتفع درجة الحرارة بشكل مفاجئ، يزحف أهل المدن إلى البساتين المحيطة بالمدينة أيام الجمعة
يبحث خبراء العمل الإنسانى والخبراء العسكريون طريقة لإسقاط المساعدات الإنسانية على المناطق المحاصرة فى سوريا، على غرار ما حدث خلال الحرب فى جنوب السودان أو فى أفغانستان أو فى العراق عام 2014، حين تمت محاصرة الأيزيديين، لتغطية المناطق التى كان يصعب على المنظمات الإنسانية الوصول إليها برا والتى كان يعانى سكانها من نقص فى المواد الغذائية والطبية، فكان يتم إلقاء أكياس كبيرة مملوءة بتلك المواد ومربوطة بمظلات من طائرات فوق مساحة يتم تحديدها مسبقا.
لا أستوعب أننا بتنا نناقش إسقاط المساعدات الإنسانية على سوريا، البلد الزراعى الغنى بالفاكهة والحمضيات واللوز والجوز والقمح والزيتون، بلد الخيرات كما نسميه. فبين برتقال الساحل السورى ومشمش الغوطة وفستق ريف حلب، كيف يمكن لهذا البلد أن يصبح مادة نقاش لمن يخططون لتوزيع الغذاء؟
***
فى سوريا الخير، حين يطرق الربيع بابنا باكرا وترتفع درجة الحرارة بشكل مفاجئ، يزحف أهل المدن إلى البساتين المحيطة بالمدينة أيام الجمعة، يفرشون غطاء على الأرض ليجلسوا عليه، يلعب الأطفال أمامهم فيتدحرجون على الأرض أو يختبئون وراء جذوع الشجر ويفتش أحدهم عن الباقى، ريثما يجهز الطعام. بالنسبة لأهل دمشق التوجه نحو الغوطة للسيران هو امتداد لأسبوعهم، فالسيران بلغة الشوام هو مشوار إلى مكان أخضر يفضل أن يكون قرب مصدر ماء كنبع أو نهر، حتى أن كثيرا ما كانت تختصر المسافة أصلا، فتتوقف العائلة عند أول مكان تكثر فيه الأشجار حتى ولو أنه على مخارج المدينة وليس أبعد، ليمدوا الحصيرة وعليها الطعام عند الظهر وبعده ويعمروا الأرجيلة (الشيشة) والشاى عند الغروب.
فى السنوات الأخيرة التى سبقت دخول سوريا فى دوامة الدم، كان التصحر قد طال الكثير من مناطق البلد الخضراء، كما اقتلع العمران العشوائى أشجار ما كان يسمى بحزام دمشق الأخضر وهو الغوطة الشهيرة، فظهرت العمارات مكان الأشجار وغطى الأسمنت على الزهر، كما هو الحال فى معظم المدن فى المنطقة، حيث التخطيط العمرانى محكوم بمصالح النخب الحاكمة سياسيا واقتصاديا، وتوسعت المدن، خصوصا العواصم، بشكل لم يأخذ بالاعتبار أى تخطيط طويل الأمد، لا سيما فيما يتعلق بالتخطيط المدروس للشوارع وشبكات الصرف الصحى والخدمات. لكن ذلك كله لم يمنع أهل المدينة من التوجه نحو أى تجمع للأشجار بغية السيران. وبقى على مدى أجيال للسيران طقوس، من أهمها أنه يشير أساسا إلى يوم تقضيه العائلة فى بساتين الغوطة، وكان القدماء يعدون الغوطة ضمن عجائب الدنيا لما تشتهر به من غابات وبساتين تملؤها أشجار الفاكهة، المشمش والخوخ والتوت والتفاح والكرز.
اليوم تحكى لى صديقة أنها حين أعطت طفلا خرج من الغوطة حديثا موزة، نظر الطفل إلى حبة الفاكهة وبدأ بأكلها مع القشرة، بينما احمرت وجنتا أمه وقالت لصديقتى بخجل «ما بيعرف الفواكه، عمره 3 سنين ونحن بالغوطة ما عنا فواكه».
***
من المستحيل أن يتخيل السورى ما وصلت إليه بلده، رغم تصدر الأزمة السورية بأبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية الصحف والنقاشات. أن تكون سوريا هو أن تمد يدك إلى شجرة فى الصيف، فتقطف من على غصنٍ تفاحة تأكلها بعد أن تمسحها بيديك أو بثيابك. أن تكون سوريا هو أن يصلك من أقارب لك فى حماه وعاء من اللبن الصافى على وجهه طبقة سميكة من القشطة. أن تكون سوريا هو أن تمد يدك إلى طبق مربى المشمش الذى أتى مشمشه من الغوطة وخلط بالسكر، والذى وزعت منه سيدة الدار مطربانات على العائلة والجيران. أن تكون سوريا هو أن تعرف أن منطقة دير الزور فى شمال شرق سوريا قد أنتجت بحسب علماء الآثار تجمعات بشرية منذ مراحل ما قبل الحضارة، فطورت أنظمة لتخطيط المدن والرى والزراعة بأشكال ظلت تنمو وتتطور وتخدم التجمعات الإنسانية الأخرى فى المنطقة لآلاف السنين.
كيف يمكنك كسورى اليوم أن تقرأ عن الحصار والتجويع والموت من الجوع والقهر فى مناطق مذكورة فى معظم الدراسات عن سوريا ومنطقة بلاد الشام كمناطق تصدر الثروات الزراعية والخامات إلى باقى البلاد؟ أن تكون سوريا اليوم هو أن تساهم فى حملات لجمع مواد غذائية أو ثياب شتوية أو أقساط عملية جراحية، فتتساءل عن مرات فى الماضى طلب أحدهم منك أن تتبرع لمساعدة ضحايا الحرب فى البوسنة والهرسك مثلا، وتحاول أن تتذكر مدى تعاطفك معهم لتقيس مدى تعاطف العالم مع أهلك فى سوريا اليوم. هل أبديت وقتها أية محاولة لفهم واستيعاب المجازر التى حدثت؟ هل أعطيت أهل تلك البلاد الوقت والعاطفة والمساعدة التى كانوا يستحقونها؟ هل هم أيضا كانوا يذهبون فى سيران يوم عطلتهم، ثم تحولوا إلى أناس يحملون غطاء ومخدة وصورا عائلية يهربون بها إلى مناطق لا يطالها القصف؟
***
أن تكون سوريا اليوم هو أن يبهت العالم من حولك تماما بالمقارنة مع تلون البلد الذى مازال فى ذاكرتك، وأن تصمت الأصوات من خلفك حين تظهر فى رأسك موسيقى بعيدة على العود، فترى كبير العائلة يجلس تحت شجرة فى البستان، يسمعك بعد الغذاء نغمات «دقة ستى».
أن تكون سوريا اليوم هو أن تصاب بذهول كلما سمعت حديثا عن إسقاط المساعدات الإنسانية على مناطق مازالت فى مخيلتك مناطق خير وكرم، أهلها مستعدون دوما لأن يقطعوا اللقمة عن أنفسهم كى يعطوها للضيف. أن تكون سوريا اليوم هو أن تعيش فى حالة لا تصديق دائمة وأنت تدرك وتعلم أن بلدك كما أحببته يتلاشى.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة