شكّل الاتحاد الأوروبي حالة فريدة ضمن تجارب التكامل والاندماج والتكتل التي عرفها العالم
شكّل الاتحاد الأوروبي حالة فريدة ضمن تجارب التكامل والاندماج والتكتل التي عرفها العالم، إلى درجة أصبح ينظر فيها إليه على أنه نموذج ومثل أعلى تسعى مختلف التكتلات الإقليمية للوصول إليه خصوصا بعد نجاحه في التوسع أفقيا وعموديا، وتأسيسه لنظام حر للانتقال الحر للأشخاص عبر فضاء "شينغن"، ونجاحه في تبني عملة موحدة متمثلة في "اليورو" الذي دحر عملات عريقة مثل المارك الألماني والفرنك الفرنسي، ولكن واقع الحال اليوم ينبئ بأيام صعبة في انتظار مستقبل هذا الاتحاد الذي بدأ منذ سنوات قليلة يفقد تدريجيا قوته الناعمة وجاذبيته كتجربة مغرية بالتقليد وجديرة بالإتباع، وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية 2008 وما تبعها من دخول دول منطقة اليورو في دوامة أزمة لا تزال تبعاتها مخيمة على القارة العجوز لحد الآن، وتراجع الإيمان بالحلم الأوروبي حتى لدى الأوروبيين أنفسهم، مع تصاعد أصوات يمينية وقومية وحتى في أوساط معتدلة في دول قوية في الاتحاد كألمانيا وفرنسا وبريطانيا تنادي بالانشقاق عن المؤسسة الأوروبية والعودة للحدود القومية وللعملات الوطنية وللسياسات المحلية.
أذكر جيدا في زيارتي الأخيرة للمغرب نهاية سنة 2014 الحديث الذي جمعني بسائح بريطاني في مدينة فاس، وكيف أخذ يتهكم على الاتحاد الأوروبي ويبدي فخره بالجنيه الإسترليني، وأنه لا حاجة لبريطانيا بالاتحاد وبعملته الموحدة ما دامت عملة بلده هي من الأقوى عالميا، وبعد مرور أكثر من عام عن ذلك الحديث العابر، ها هي ذي وجهة نظر ذلك السائح يتم التعبير عنها بصوت أعلى وعبر مستويات عليا وقنوات مؤثرة سياسيا وإعلاميا وشعبيا وحتى أكاديميا، مع تطور مثل تلك التصورات التي كانت تبدو فردية ومعزولة لتأخذ بعدا أكبر وصدى أوسع وتتبناها قوى سياسية ومؤثرة ولتجد لها انتشارا في أوساط المجتمع البريطاني بمختلف أطيافه، وهو ما يشكل واحدا من بين أكبر التهديدات البنيوية والوجودية للتجربة التكاملية الأوروبية، مع ترسيم تاريخ 23 يونيو موعدا لاستفتاء حول الانشقاق عن المنظومة المؤسساتية الأوروبية، وإعلان أعضاء من حزب المحافظين الحاكم الذي يضم تيارا قويا معارضا للتوجه الأوروبي وعمدة لندن "بوريس جونسون" وخمسة وزراء من حكومة "كاميرون" دعم مسعى الانشقاق، بمقابل إعلان "ديفيد كاميرون" رئيس الوزراء دعمه لمسعى البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي لأن الخروج منه تهديد لأمن بريطانيا القومي والاقتصادي كما جاء في خطابه أمام النواب، بعد أن عاد من بروكسل بمشروع اتفاق يأمل في أن يعزز الوضع الخاص لبريطانيا في الاتحاد ويعزز حظوظ التصويت بـ"لا" للانشقاق عن الأسرة الأوروبية، إذ تضمن الاتفاق الاعتراف بتعدد العملات الأوروبية داخل الاتحاد، ومنح بريطانيا حق الاستشارة في القرارات التي تتخذ ضمن منطقة اليورو إذا ما عارضت مصالحها، وتسهيل التنقل الحر لرؤوس الأموال، إضافة لتنازلات أخرى فيما يخص قضية المهاجرين واللاجئين.
ويعود تسرب الرغبة في الانشقاق للجزيرة البريطانية لتراكم مجموعة من العوامل التي جعلت الشك يتسرب لنفوس الأوروبيين، ولا سيما البريطانيين بخصوص جدوى الاستمرار ضمن اتحاد لم يرتق بعد لمستوى التطلعات، ومن أهم تلك العوامل عدم صمود الاتحاد أمام الهزّات التي خلفتها الأزمة المالية العالمية 2008، أين تهاوت عدد من الاقتصاديات المنخرطة في الاتحاد الأوروبي، وتسببت الهزات الارتدادية لتلك الأزمة في بروز ما سمي بأزمة الديون السيادية في دول منطقة اليورو، بسبب تدخل الحكومات الأوروبية لإنقاذ بنوك ومؤسسات مالية من الإفلاس، وجدولة ديونها وتأميم جزئي لبعضها وانتقال ديون تلك المؤسسات نحو الحكومات التي تحملت عبئها مما أثر على موازناتها المالية، بالتزامن مع ارتفاع نفقاتها وعدم التزامها بالقواعد المالية الموحدة التي يلزم بها الاتحاد الأوروبي دوله الأعضاء وفق ما هو مقرر في الميثاق الأوروبي للاستقرار والنمو الموقع في "ماستريخت"، مثل عدم السماح بتجاوز نسبة العجز في الميزانية إلى إجمالي الناتج المحلي 3%، وعدم تجاوز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي 60%، وبانفجار الأزمة لم تتضرر قيمة اليورو حسابيا فقط بل سمعته أيضا وقوته المعنوية والنظر له كعملة عالمية مستقبلية منافسة للدولار، في مقابل استمرار الجنيه الإسترليني في موقفه القوي ضمن الأسواق العالمية.
ومن النواحي السياسية من المعلوم أن بريطانيا ورغم عضويتها في الاتحاد الأوروبي إلا أن ولاءها مازال عبر أطلسي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما هو أوروبي، وكثيرا ما تبنت مواقف وسياسات تعارض الإجماع الأوروبي، مثل مشاركتها في الحرب على العراق سنة 2003 رغم الرفض الأوروبي بقيادة كل من فرنسا وألمانيا، وعدم موافقة البريطانيين على مخرجات الاتحاد الحيوية اقتصاديا وسياسيا مثل تبني العملة الموحدة، كما أصبح الكثير من البريطانيين يضيقون ذرعا بالانضواء تحت لواء اتحاد تسيطر عليه جدية الألمان وعجرفة مستشارتهم "ميركل" كما يقول البريطانيون، وهذا ما جعل الخبراء يتحدثون عن محورين أساسين داخل الاتحاد أحدهما أوروبي الهوى بزعامة ألمانيا وفرنسا والثاني ما يزال أمريكي وأطلسي الميول بقيادة بريطانيا وما يتبعها من دول من أوروبا الشرقية ومن الجمهوريات التي تولدت عن تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا والتي اصطلح عليها اسم "أوروبا الجديدة".
كما يرتبط تنامي الاتجاه الداعي لانشقاق بريطانيا عن الاتحاد بتصاعد المد القومي واليميني في أوروبا عموما، وهو المد الذي تغذى بالتدفق الكبير للمهاجرين واللاجئين السوريين منهم خصوصا على القارة الأوروبية، وما خلفه ذلك من ردود متباينة ما بين الترحيب والاستهجان، واضطرار الاتحاد لتبني نظام الحصص وتوزيع اللاجئين على مختلف الدول الأعضاء فيه، وهناك تحليلات ترى أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيعفيها من مسؤولياتها تجاه اللاجئين والتزاماتها كدولة عضو فيه، ويعزز من أمن حدودها وحصانتها الجغرافية بحكم كونها جزيرة محمية بأمواج الأطلسي، إضافة إلى استفادتها عند خروجها من الاتحاد من حماية قانونية لأنها لن تكون ملزمة بقواعد حرية عبور الأشخاص التي تضمنها اتفاقية "شينغن"، ومعلوم أن منطقة "كاليه" في فرنسا تشكل الهاجس الأكبر لبريطانيا فيما يخص مسألة الهجرة، لأنها مركز لتجمع المهاجرين الراغبين في عبور المانش بكل الطرق للوصول للبر البريطاني.
فعلاقات بريطانيا بالاتحاد الأوروبي عموما اتسمت بالكثير من محطات الخلاف والشك، ولطالما طالبت لندن بمعاملة تفضيلية وتفاوضت للوصول إلى تسويات تخدمها مقارنة بالدول الأعضاء الأخرى، وهو ما عزز الاعتقاد لدى الكثيرين في بريطانيا وداخل الاتحاد أيضا بأن أهداف هذا التكتل ومبادئه لم تعد تشكل أولوية بالنسبة لبريطانيا وإلا ما كانت لتتصرف معه بهذا الشكل، وعلى الرغم من تمسك الحكومة البريطانية الحالية بالبقاء في الاتحاد ومعارضتها لفكرة الانشقاق، إلا أنها تبحث عن بقاء مشروط وهذا ما يتجلى في فرضها لشروط على شركائها الأوروبيين واكتسابها لوضع خاص داخل الاتحاد، وهذا الأمر يعزز بطريقة غير مباشرة نزعة الانفصال والانشقاق عند داعمي هذه الفكرة، إلا أن قدر بريطانيا -وإن افترضنا فوز المطالبين بالانشقاق عن الاتحاد في استفتاء يونيو- يبقى مرتبطا بأوروبا رغم تطلعها لما وراء الأطلسي، بل هنالك دراسات تشير إلى أن خسائر بريطانيا نتيجة خروجها من الاتحاد ستكون أكبر من مكاسبها اقتصاديا وحتى سياسيا، بل وستكون وحدة الجزيرة البريطانية في حد ذاتها مهددة، لأن خروجها من الاتحاد سيفسح المجال لإجراء استفتاء ثان في اسكتلندا حول الانفصال عن التاج البريطاني.
ورغم الأرقام التي تؤكد أنه ولحد الآن يبقى التيار الانفصالي داخل المجتمع البريطاني متأخرا نسبيا مقارنة بالمؤيدين له، إلا أن مجرد إجراء استفتاء حول هذه المسألة يضع قيم الاتحاد وصلابته محل مساءلة، فقد بات استمراره واستعادته لجاذبيته كتجربة تكاملية ناجحة مرهونا بمدى قدرته على مواجهة التحديات التي تواجهه حاليا، واستعادة ثقة الدول الأعضاء فيه كهيكل تفاعل جامع وكفضاء أمثل لتحقيق أهدافها، في انتظار ما سيسفر عنه استفتاء الصيف الحار القادم في بلد الشتاء القارص.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة