يواجه العقل والروح المصرية الإبداعية واحدة من أخطر الهجمات ضراوة من بعض المحافظين والمتزمتين دينيا وأخلاقيا
يواجه العقل والروح المصرية الإبداعية واحدة من أخطر الهجمات ضراوة من بعض المحافظين والمتزمتين دينيا وأخلاقيا،
فى سعى هؤلاء للسيطرة على العمليات والآليات الذهنية والأخيلة الإبداعية للمفكرين والمثقفين والفنانين، أيا كانت مجالات إنتاجهم الإبداعى، والأخطر هو محاولة تنميط العقل والخيال وتحويلهما إلى آلة ذهنية بليدة تنتج الشعارات الشعبوية والأمثولات الأخلاقية، والمقولات الدينية التأويلية الوضعية السلفية، والمرويات الشعبية التى يذخر بها التراث الفلكلورى والمخيلة الجماعية.
إنها محاولة لهندسة العقل والخيال لوأد النزعة النقدية والعقلانية، وترويض الخيال ليغدو مستأنسا على هوى وزائقة تقليدية تدور فى دوائر مغلقة لا تنتج سوى الفراغ وتخييلات فقيرة ورؤى مترعة بالتفاهة واللغة الخشبية التى لا تَبينَ، حيث يسكن فى حناياها خواء الروح وفقر الفكر.
منذ عديد العقود وبعضهم يعتقد أن الأدب هو إنشاء على نمط بعض الخطابات الوعظية والأخلاقية الرامية إلى الهيمنة على العقل والوعى الجمعى، لأنها خطابات الحقيقة المطلقة التى يحرسها بعض الآحاد والجماعات ممن يعتبرون أنفسهم ملاكاً وحراساً للحقائق الدينية / الوضعية المطلقة، ووفق هذا التصور والإدراك الفردى أو الجماعى أعطوا لأنفسهم الحق فى مطاردة الكتب والمقالات والقصائد والقصص والروايات والمسرحيات والصور. أخطر ما فى هذه الظاهرة الممتدة مصريا «وعربيا» يتمثل العقل الاحتسابى ذو المنزع الدينى الوضعى والأخلاقى المولع بالتفتيش فى الإنتاج الفكرى والإبداعى بحثا عن كلمة أو فقرة أو صفحات لا تتوافق مع معاييره وزائقته، ويحرض العامة وسلطات الدولة على تحريك الدعاوى القضائية حيث الكاميرات والتحقيقات تلاحق بعضهم للإدلاء بالأحاديث ... إلخ، وذلك على نحو ما كان يتم طيلة أكثر من أربعين عاما مضت، من المطاردات للأفكار والأخيلة والصور. إن العقل الاحتسابى النمطى يتسم بالتجزيئية، وعدم رؤية الظواهر والمشكلات والأعمال الفكرية والإبداعية فى تكاملها الداخلى، وبنياتها ومواطن القوة والجمال والخيال والإبداع فيها، وإنما يتعامل معها وكأنها خطابات أخلاقية ودينية، من خلال المعايير المستمدة من الأعراف والتقاليد والقيم المتخيلة التى يخلطُ بينها وبين الدين والمذهب والأخلاق. حيث يتم التعامل مع الواقع الموضوعى ومحمولاته الأخلاقية والدينية والقيمية، على أنه هو الواقع فى الموروث الدينى الوضعى الذى تحفلُ به كتب الفقه والتفسير والتأويل والإفتاء وعلم الكلام، أى محاولة قسر الواقع الموضوعى وحركيته ومثالبه وتهتكاته لكى يكون على مثال الواقع التاريخى فى الخطابات الدينية والمذهبية الوضعية حول الدين التى انتجت فى بعض المراحل التاريخية.
نظرة وإدراك لا تاريخى بامتياز تسم العقل الاحتسابى فى نظرته للواقع فى التاريخ والواقع الحى المعاصر بكل تفاعلاته وتناقضاته وازدواجياته وتهتكاته وفجوره وفضائله وشروره ومكامن الخير فى قيمه وبعض ممارساته. العقل الاحتسابى يعتمد على التعميمات واللغة الإنشائية الفقيرة التى تتحدث عن القيم والأخلاقيات والحياء العام والآداب والأخلاق العامة، على نحو لا تاريخى يحدده المحتسب واختياراته ومعاييره، وليست تعبيرا عن الواقع الموضوعى وحركة البشر وتفاعلاتهم وخطابات البذاءة والمسبات والقبح، والتناقضات داخل التركيبة النفسية للإنسان المصرى أو العربى.
يحفل الواقع اليومى بفضاءات من البذاءة وخدش الحياء والسلوكيات الجنسية واللغة الحوشية والأحاديث السوقية التى أصبحت من فرط شيوعها وتكرارها فقدت محتواها ودلالتها. إن العقل الاحتسابى يحاول أن يفرض هيمنته على المجال العام ويتخذ من مجموعة من الشعارات والمعايير أدوات للتحريض ضد العقل الناقد الحر، والخيال الإبداعى الخلاق، من خلال اللجوء إلى آلية الشكوى للنيابة العامة التى تحرك دعوى الحسبة، وازدراء الأديان للمحاكم. إن النصوص القانونية التى يحاكم بها المبدعون والكتاب سواء فى ازدراء الأديان، أو خدش الحياء العام تتسم بعدم الدستورية وما جاء بنص المادة 67 فى دستور 2014، والتى تجرى على أن: «حرية الإبداع الفنى والأدبى» مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلكس. والمادة 71 من الدستور التى جاء بها. «ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية». هذه النصوص قاطعة فى ضرورة أعمالها، وعدم دستورية المواد السالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، من هنا على السلطة التشريعية أن تقوم بإلغاء هذه النصوص السالبة للحرية، ومعها تجريم ازدراء الأديان، والأفكار والأخيلة.
إن العمل الأدبى والفنى والفكرى تحكمه مفاهيم ونظريات نقدية وجمالية ومناهج فى التقييم النقدى باتت تشكل ذروة التطور فى ثورة الألسنيات «اللغة» والتحليل الفنى. من هنا من الممكن للنيابة العامة أو المحكمة أن تستعين ببعض أهل الخبرة من نقاد الأدب الكبار لاستطلاع رأيهم فى العمل الإبداعى المشكو فى حقه، لأن الواقع فى التخييلات الأدبية الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية هو واقع متخيل، وليس هو الواقع فى ذاته، حتى ولو كانت بعض شخوصه وأمكنته ورموزه مستمدة من الواقع الحى. ثمة ما يطلق عليه اصطلاحيا جماليات القبح، والبذاءة التى تكشف الواقع ومناطق التهتك والتحلل داخله، وفى اختلالاته وتناقضاته الأخلاقية والجنسية. ما بالنا إذا كان الواقع الفعلى والافتراضى يُمور بفيضانات وسيول وأمطار تهطل بالصور والأفلام البورنوجرافية، وأكثر المجتمعات استهلاكا لها تقع فى عالمنا العربى ومصر منها، بل إن الواقع يكشف عن سلوكيات وأقوال فاحشة محمولة على التهتك والأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، والكذب والخداع وادعاء الفضيلة والأخلاق. إن العمل الأدبى لا يتجزأ ولا يختزل فى فقرة أو صفحة أو صفحات، وإنما يؤخذ العمل بأكمله فى بنيته السردية، ولغته ومجازاته وشخوصه، لأن البذاءة فى السرد هى حيلة سردية، للكشف والإنارة وللتطهر، فى بعض الأحيان، والأخطر أنها تحمل فى تخييلاتها تعبيرات عن أزمات الإنسان المعاصر فى سياقات محددة. إن التراث الأدبى العربى يحملُ نصوصا صريحة فى السرد الجنسى، لدى الأصفهانى والنفزوى والسيوطى وأحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا. وسواهم ممن أثروا التراث العربى الأدبى والفقهى.
إن وقائع حبس أحمد ناجى، أو بعض الكتاب فى قضايا ازدراء الأديان خطر كبير على حرية العقل والفكر والإبداع، وكان يمكن الرد عليهم نقديا بتحليل أعمالهم وكتاباتهم وأقوالهم والكشف عن مواطن الخلل فيها ودحضدها، أو التقييم النقدى للعمل الروائى من خلال أدواته. إن تاريخنا القضائى حافل بالدفاع وحماية حرية الفكر والإبداع والضمير والتدين والاعتقاد، فقط أرجعوا إلى قضاء النقص العظيم، ومبادئ الإدارية العليا الرصينة، والمبادئ المستقرة فى الدستورية العليا رفيعة المكانة والمقام. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة