بينا في المقالات السابقة مرجعية الدولة سواء في عصر الرسالة أو ما بعده وصولا إلى الدولة في الوقت الحاضر
بينا في المقالات السابقة مرجعية الدولة سواء في عصر الرسالة أو ما بعده وصولا إلى الدولة في الوقت الحاضر،
وانتهينا إلى أن الدولة تنتهج الرجوع إلى الشريعة الغراء، ولكي تقوم الدولة بالدور المنوط بها خير قيام فإن هناك مسئولية تناط بالفرد والدولة أو مسئولية عامة ومسئولية خاصة في تطبيق هذه الأحكام، وقد خصصنا مقال اليوم للكلام عن ذلك فنقول:
لئن كانت الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد العاجلة والآجلة، فإنها في سبيل تحقيق ذلك شرعت أحكامًا توصِّل إلى وضع هذا الهدف وهذه الغاية النبيلة موضع التطبيق، وجعلت بعض هذه الأحكام فروضًا على الأعيان، وبعضها على الكفاية، فضلًا عن جملة الأحكام التي ليس فيها إلزام، بل الدافع فيها هو عمق الإيمان وحب الشرع الشريف، وهذه الأحكام هي من قبيل السنن والمستحبات.
وإذا كان الإلزام هو السمة البارزة في هذه التكاليف فإنه يتقرر بناء عليه وجود المسئولية، إلا أن الملاحظ من جهة أخرى- وبناء على ما ذكرنا- هو غلبة المسئولية الفردية ومن ثَم فإن الأصل في التشريع الإسلامي هو ثبوت تلك المسئولية الفردية، ولا يعني هذا نفي المسئولية الجماعية؛ بل إنها ثابتة من حيث الأصل في التكاليف الكفائية، وتقوى وتظهر بصورة أكبر عندما تختل المسئولية الفردية في إطار هذه التكاليف.
ويمكن أن نضرب أمثلة عديدة على ذلك توضح هذا المقام؛ ففي العبادات والمعاملات نلحظ تلك المسئولية الفردية بارزة سواء في إطار إيقاع العبادة أو المعاملة على وجهها الشرعي الصحيح وأدائها كما يتفق مع مقصود الشارع أو في إطارها الأخلاقي الذي يدفع إليه الضمير الإيماني دون رقابة من أحد، مما يشكِّل منظومة متكاملة من العمل على تحقيق المصلحة الدنيوية والأخروية، وذلك ثابت في نصوص الشرع الشريف على وجه القطع، من مثل قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ[الإسراء: 13]،وقوله سبحانه:وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَسْئُولُونَ[الصافات: 24]، وقوله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ u وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ُ[الزلزلة: 7، 8].
فكل ذلك يدل على ثبوت المسئولية عن التكاليف الشرعيَّة الملزمة التي جاء بها الشرع الشريف لبناء الإنسان وتحقيق العمران والرقي الحضاري في التعامل الإنساني، ولهذا فإن الإمام القرافي رحمه الله تعالى أثبت أن العبادات في مجملها إنما قُصد بها تهذيب النفس الإنسانية لترتقي وتسمو عن الدنايا والسفاسف من الأمور.
على أنه في الجانب الآخر وهو التكاليف الكفائية التي يغلب فيها ثبوت المسئولية الجماعية، فإن المسئولية الفردية ملحوظة فيها، وهي في ذاتها أساس لتحقيق المصالح الجماعية، وهذا لا يعني بُعْد هذا الهدف -وهو المصالح الجماعية- من نطاق التكاليف العينية التي تؤدي إلى المسئولية الفردية، فإن التشريع في جملته إنما هو لتحقيق مصالح الناس فرادى وجماعات، وقد أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي، فقال:«ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد،لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال«.
وبذلك تتجلى حقيقة مهمة من شأنها التأكيد على أن المسئولية الفردية - نظرًا لأصالتها في الجانب العيني وسريانها في الجانب الكفائي- هي أساس للمسئولية الجماعية، ولا يمكن استقامة المسئولية الجماعية إلا بوجود المسئولية الفردية على وجهها الصحيح، وكلما وجدنا تطبيقًا صحيحًا للتكاليف الشرعيَّة في جانب العبادات والمعاملات أدى ذلك إلى ارتفاع مؤشر الشعور بالمسئولية الجماعية، ودل ذلك على رقي المجتمع وتحضره، لأن هذه المنظومة من التكاليف، وإن كان المقصود فيها الجانب الفردي، إلا أن أنها تضفي على الشخصية المسلمة ذلك الارتباط الوثيق بين السلوك والتكليف على وجه العموم، بحيث إن المسلم لا يأتي سلوكًا ما- فرديًّا أو جماعيًّا أو وظيفيًّا- إلا ويلازمه ذلك الضمير الرقابي الذي تعمق فيه من ممارسة هذه التكاليف، ومن ثَمَّ فإن هذا كله إنما يرجع نفعه في النهاية إلى المجتمع، فضلا عن أفراده.
ولا ريب أننا في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ مصر الحبيبة نحتاج إلى تعميق هذا الشعور بالمسئولية الفردية والجماعية، كلٌّ في تخصصه ومجال عمله؛ إذ العمل إنما يخلص بحسن النيات والقصد إلى القربة والتعبد لله عز وجل، امتثالا لقول الحق تعالى: وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[التوبة: 105] .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة