لم يعد السؤال «ماذا يريد السوريون» مطروحاً، بل أصبح السؤال: «ماذا يريد الأميركيون والروس والإيرانيون» لسورية وشعبها؟
لم يعد السؤال «ماذا يريد السوريون» مطروحاً، ولا معبراً عن شعب موجود مصمّم على العيش في سورية واحدة. بل أصبح السؤال: «ماذا يريد الأميركيون والروس والإيرانيون» لسورية وشعبها؟ نعم، هناك نظام ممتلئ الآن بمشاعر انتصار قيد الإنجاز لكن مصيره ليس محسوماً بعد على النحو الذي يتمنّاه، وهناك شعب يناوئ هذا النظام وأصبح معظم أفراده خارج الحدود فيما يعيش الآخرون في ظروف طاردة. ونعم، هناك دول عربية واقليمية تدخّلت متأخرةً ومُكرَهة بالصراع وكانت تفضّل ألّا يحصل، وهي تبدو الآن كما لو أنها خارج الصورة أو مستبعدة لأنها ترفض بالأساس ما يدور في اتصالات اللاعبين الدوليين والاقليميين عن تحويل الأمر الواقع الحالي الى واقع تقسيمي. فهكذا انزلقت أحاديث الكواليس من الانشغال بـ «وقف إطلاق النار» الى ما بعده، سواء نجح تثبيته أو فشل.
لا شك في أن خرائط القتال المتغيّرة على مدى خمسة أعوام، كذلك خرائط المجازر واقتلاع السكان، فعلت فعلها في رسم الحدود بين المناطق وفقاً لهوياتها الطائفية. ولا شك في أن المعارضة لا تزال معنيّة بشمولية قضية سورية شعباً وأرضاً ودولةً، وبإعادة طرح أسئلة الأزمة وتحليلها منذ بدايتها، لكنها باتت وحيدة. فالنظام (شريكها/ عدوّها في التفاوض) لم يتعامل بمسؤولية مع سورية وإلا لما استدرج المواجهة مع الشعب الى العسكرة والاحتكام للسلاح ولما تآمر على البلد وتاريخه وهويته للحفاظ على نفسه، ولن يفلح في ذلك أياً تكن صيغ التقسيم. أما القوى الخارجية فتريد تجاوز كل الوقائع لتتعاطى فقط مع نتائج الاقتتال بغية إنهاء الصراع، ولا ترى فائدة من أي جدل حول مخرجات نظام مستبد بانت حقيقته، ولا تزمع معاقبته في أي حال، رغم إمعانه في الإجرام.
عشية الهدنة الموقتة في سورية، أدارت واشنطن حملة تشكيك مركّزة على نيات روسيا، ليس فقط لانتزاع التزامها «وقف العمليات العدائية» بل أيضاً للتأكد من ضمانها التزام ايران ونظام بشار الأسد. ردّت موسكو بإرسال وزير دفاعها الى طهران وبجولة هاتفية لفلاديمير بوتين. كان الروس والإيرانيون والأسديون صعّدوا العمليات العسكرية فأجهضوا أوائل شباط (فبراير) محاولة لإطلاق المفاوضات السياسية في جنيف، وكانت الحجة أن لا اتفاق بين الأطراف على وقفٍ لإطلاق النار، بل توافق «ضمني» على أن تمضي المفاوضات والمعارك في آن، وهو ما رفضته المعارضة التي حدّدت شروطاً للبدء بالتفاوض - وقف القصف العشوائي (الروسي)، إنهاء الحصارات وإيصال المساعدات الإنسانية، وإطلاق المعتقلين. لم يكن هذا التصعيد على الأرض مبرمجاً فحسب، بل أوحت ردود الفعل الأميركية بأنه حصل خلافاً لـ «التفاهمات» مع روسيا ويكاد يُخرج الوضع عن السيطرة. فإدارة باراك اوباما لا تمانع الضغط على المعارضة كي تقبل بـ «الحل السياسي» المرسوم، إلا أنها تعارض شطبها عسكرياً، ليس فقط لأنه يحبط أي حل بل خصوصاً لأنه سيمدّ «داعش» بآلاف المقاتلين وسيكون بالتأكيد الخطوة التمهيدية لإرهاب «ما بعد داعش».
أدركت موسكو أنها ارتكبت خطأً تكتيكياً لكنها لم تعترف به، بل جاء سيرغي لافروف الى ميونيخ للبحث مع جون كيري في وقف إطلاق النار، وخرج الاثنان لإعلان اتفاق، لكن أيضاً لإبداء تشكيك كل منهما في الآخر، مع فارق أن الروسي أكثر تحكّماً بخططه، ولا يهمّه أن يُتّهم بالخروج عن «التفاهمات» أو عن نص القرار 2254. وقد استهلك الإعداد للهدنة ثلاثة أسابيع، بما فيها من ضحايا ومصابين ومهجّرين ودمار واستهداف منهجي للمستشفيات والمدارس. في الأثناء، استطاع الروس وحلفاؤهم فرض مزيد من التغيير في خريطة السيطرة والانتشار لمصلحة النظام. ولو لم يبلغ التوتر على حدود تركيا نقطة اشتعال مواجهة اقليمية لما اضطر الأميركيون للتفكير في مبادرات (وهذا نادر في نهج اوباما)، منها الضغط على موسكو كي توضح استراتيجيتها:
فإذا كان هدف روسيا تمكين الأسد من السيطرة الكاملة، فإنها تعي جيداً أن نظامه لم يعد قادراً على إدارة المناطق المستعادة بسبب ما هو عليه من ضعف ووهن، لذلك فإنه سيعتمد على الإيرانيين وميليشياتهم، وهذا سيكلّف روسيا صراعاً أطول وسيفتح الباب لتعقيدات جديدة لأن القوى الداعمة للمعارضة ستقدم على رفع مستوى تسليحها بضوء أخضر اميركي أو من دونه.
أما إذا كانت روسيا تجد مصلحة في ترجيح «تسوية سياسية» فعليها أن تغيّر مقاربتها كليّاً، أولاً بإعادة الأزمة السورية الى اطار فيينا والقرار 2254 المتفق عليهما، وثانياً بالتخلّي عن مناورتها بالملف السوري لانتزاع مكاسب في الملف الاوكراني، وثالثاً بوضع حدٍّ لاستفزازها المفتعل ضد تركيا وإلا فإنها ستشوّش على خطط محاربة إرهاب «داعش» وتفسدها.
لكن إدارة اوباما اعتادت على أن لا تتوقع من بوتين سوى عكس ما يعلن وعكس ما يُتفق عليه، فيما اعتادت موسكو على تنازلات اميركية متدرّجة، من قبول التدخّل الايراني الى التكيّف مع التدخل الروسي، ومن القبول ببقاء الأسد الى الرضوخ لحل قوامه حكومة تحت سلطته، ومن استبعاد عملية انتقال سياسي الى غضّ النظر عن تصفية المعارضة... ولم ينتهِ المسلسل بعد، فكلما ضغط الروس وجدوا اوباما ملبّياً. ويبدو أن جون كيري، بصفته المحاور الوحيد للروس، هو الوحيد العارف ما يريده رئيسه، أي لا تدخّل ولا تورّط ولا حسابات خاصة لمصالح الحلفاء والأصدقاء.
ما فات اوباما أن النتائج الكارثية لتدخّل سلفه جورح بوش الابن في العراق تكرّرت على نحو أفظع في سورية في عهده رغم/ أو بسبب عدم تدخّله. لا بد أن كيري يدرك هذه الحقيقة فيما يتولّى عملية الإخراج الجيد لسياسة يعلم أنها سيئة، ثم أن الروس لا يسهّلون له مهمته، لذلك استبق «وقف العمليات العدائية» بجملة مواقف راهن فيها على «الالتزام الروسي» بإنجاح الهدنة كي يمكن تفعيل الجهود الديبلوماسية، وإلّا فإن الفشل سيعني أن سورية «قد تدمّر بالكامل» و «أننا قد نتخذ مواقف أكثر حدّة بما فيها تقسيم سورية» و «وربما يفوت الأوان على إبقاء سورية موحّدة اذا انتظرنا فترة أطول»!... ثم كشف أن رهانه الآخر على الإيرانيين وما إذا كانوا سيعملون «بنية حسنة» لتحقيق «الانتقال السياسي»، فضلاً عن رهانه على الأسد و «اتخاذه بعض القرارات الحقيقية في شأن تشكيل عملية حكم انتقالي حقيقية».
كان كيري وهو يعرض رهاناته الثلاثة هذه كمن يتحدث عن ثغرات خطيرة يعرف مسبقاً أنها ستفسد الهدنة. أما إشارته الى الخطة «ب» فالهدف منها تخدير الحلفاء أو تضليلهم، لأن رئيسه يرفض أي تحدٍّ لروسيا وايران. لكن ما يستوقف هو قفزه المفاجئ الى «التقسيم»، وإذ صاغه بلهجة التحذير للروس والايرانيين والأسد فقد بدا كمن يدعوهم لمباشرة المساومة التي ينتظرونها، طالما أنهم لا يريدون هدنةً ولا انتقالاً سياسياً ولا إنهاءً للصراع، بل بدا كأنه يشير الى ما يُتدَاول فعلاً في الكواليس. بالتزامن، يظهر فجأة مدير سابق لـ «سي آي إي»، مايكل هايدن» ليتحدّث عن «تغييرات اقليمية كبيرة» و «انهيار حدود سايكس - بيكو». وإذا بلافروف يحذّر من أن الارهاب يهدّد بـ «تفكيك الشرق الأوسط». وها هو أحمد داود اوغلو يصرّح بأن تركيا «لن تسمح بتقسيم المنطقة مجدّداً على نهج سايكس - بيكو» وستتصدّى لمحاولات «تقسيم تركيا الى أجزاء صغيرة»...
شهران أو ثلاثة هي المهلة التي حدّدها كيري للاختبارين: جدّية الهدنة، وجدّية مفاوضات الانتقال السياسي. لا أحد يعتقد أن الهدنة ستصمد أو أن المفاوضات ستحقق اختراقاً جوهرياً، إذ يصعب على دعاة «حل عسكري» يرونه ممكناً أن يقدموا التنازلات الضرورية لـ «حل سياسي» يرون الالتفاف عليه ممكناً. أما إذا شاءت واشنطن الانتقال الى الخطوة التالية فقد تُفاجأ عندئذ بأن محبذي التقسيم سيكونون أشدّ الرافضين لضرب «داعش» وبالأخص لأي صيغة لإعادة اللاجئين من دول الجوار أو من ملاذات أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة