كما هو متوقَّع وكما جرت عليه العادة بعد كل عمل إرهابي لم تشذّ هجمات باريس عن القاعدة، إذ لم تمر بردًا وسلامًا على المسلمين في أوروبا عمومًا وفي فرنسا على وجه الخصوص وعلى صورة الإسلام والمسلمين عبر العالم، فمن أحداث 11 سبتمبر 2001، إلى أحداث مدريد 2004، ولندن 2005، وصولًا إلى أحداث "شارلي إبدو"، وانتهاء بهجمات باريس، كان القاسم المشترك هو سيادة شعور متزايد بتوجيه اتهام إلى الإسلام كدين عنف وتطرف، وإلى المسلمين خصوصًا العرب كإرهابيين، وهذا ما انعكس سلبًا على وضع الجالية المسلمة في الغرب، خصوصًا مع تشبيه الأحداث التي جرت في باريس بتلك التي وقعت في الولايات المتحدة عام 2001، والجميع يعلم ما انجرّ عن تلك الأحداث من عداء للمسلمين وتشويه لصورتهم، إذ انتشرت بعد هجمات باريس حالة من الخوف والترقب في أوساط الجالية المسلمة هناك، والتي عبّرت عن إدانتها لما وقع، ولكنها عبّرت في ذات الوقت عن تخوفها من أن تطالها أعمال عنف وانتقام ومزيد من العنصرية والتهميش بسبب أصولها المسلمة، لا سيما مع انطلاق مظاهرة في مدينة "ليل" من طرف جماعات تنتمي إلى أحزاب يمينية رُفعت فيها شعارات معادية للإسلام تدعو لطرد المسلمين وإغلاق الحدود في وجه المهاجرين واللاجئين المسلمين، مع تسجيل أحداث ومحاولات حرق لمساجد في إسبانيا وهولندا.
لقد بيّنت الأحداث المتلاحقة تزايُد موجة الكراهية تجاه المسلمين وتصاعد حدة الإسلاموفوبيا التي تعبّر عن خوف مَرضيّ ورهاب غير مبرَّر أحيانًا لكل ما يمتّ إلى الإسلام بصلة مظهرًا وسلوكًا وفكرًا ومعتقدًا، وتحميل الجالية المسلمة مسؤولية ما حدث، بناءً على اتهامات وخلفيات مسبقة وصور نمطية تنشرها وسائل الإعلام، وخطابات تحريضية وعنصرية تتبناها قوى سياسية متطرفة ممثلة بالأساس في حزب الجبهة الوطنية الفرنسية بقيادة "مارين لوبان"، فلم تترك "مارين" وأنصارها الفرصة تمر من غير التوظيف السياسي للأحداث واستقطاب شرائح أكبر من المجتمع الفرنسي نحو التيار اليميني المتطرف، وتوسيع وعائه الانتخابي محليًّا وتشريعيًّا وحتى رئاسيًّا مستقبلًا مع انتخابات الرئاسة لعام 2017.
ويستثمر اليمين المتطرف في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية في الأحداث لرفع رصيده السياسي وبث خطابه التخويفي من أسلمة أوروبا، خصوصا مع احتمالات اختلال الميزان الديموغرافي لصالح المسلمين القاطنين في أوروبا منذ أجيال أو المهاجرين إليها حديثًا، فالأرقام توضح أن الإسلام هو أسرع الديانات نموًّا وانتشارًا في أوروبا، فحسب دراسة لمعهد "إيبو للدراسات" ارتفع عدد المسلمين في أوروبا من 30 مليونًا (أو ما نسبته 4.1% من مجموع سكان أوروبا) سنة 1990، إلى 44 مليونًا سنة 2010 (أو ما نسبته 6% من مجموع سكان القارة) سنة 2010، منهم نحو 20 مليونًا في دول الاتحاد الأوروبي، العدد الأكبر منهم في فرنسا، مع توقعات بوصول العدد بحلول عام 2030 إلى 58 مليون نسمة (أو ما نسبته أكثر من 8% من مجموع السكان).
وتعود هذه الزيادة بالأساس إلى ارتفاع نسبة المواليد في أوساط الجالية المسلمة، إضافة إلى الأعداد الكبيرة للمسلمين الوافدين إلى أوروبا من دول المغرب العربي وتركيا وإفريقيا وحاليًّا من سوريا والعراق وأفغانستان، في الوقت الذي تتناقص فيه معدلات الولادات في أوساط الأوروبيين غير المسلمين بشكل كبير، فإذا كانت البحوث العلمية تشير إلى أن أي ثقافة تحتاج كي تستمر في الوجود لحقبة زمنية معينة إلى معدل خصوبة (إنجاب) قدره 2.11% كحد أدنى، فإن ما يقلق الأوروبيين هو ضعف معدلات الخصوبة في القارة ككل لتبلغ في مجموعها 1.38% وتصل في فرنسا إلى 1.8% وتنخفض في إسبانيا وألمانيا إلى 1.1% و1.3% تواليًا، في الوقت الذي تبلغ فيه نسبة الخصوبة الإجمالية في العالم الإسلامي 8.1%.
وزاد تدفق اللاجئين السوريين على القارة من مخاوف التيار المحافظ واليميني من ذوبان هوية أوروبا تدريجيًّا أمام سيل الفارّين من النزاعات والأوضاع الاقتصادية المزرية، وفي معرض تفسيره لموقف بلاده المتشدد من اللاجئين السوريين قال وزير الخارجية المجري: "في الوقت الذي تنخفض فيه نسبة المواليد والرغبة في الزواج وتكوين أسرة عندنا، نجد العكس عند المسلمين الذين يمتازون بحيوية ديموغرافية... وهذا مبعث لتخوفنا على قيمنا ونسيج مجتمعنا من التغير..".
إن تحميل المسؤولية للجالية الإسلامية ككل يبقى أمرًا خاطئًا وغير منطقي، فأعضاؤها كلهم تقريبًا يرفضون العنف وينددون بما حصل، ولكن يبدو أن هامش التفريق بين الإسلام والإرهاب وبين المسلمين والتطرف آخذ في التقلص بشكل كبير إلى الحد الذي دفع بـ"ستيفان زوو مستيغ" مدير الدراسات في معهد "إيبسوس" إلى التصريح بعد أحداث "شارلي إبدو": "الخطر الحقيقي يتمثل في تراجع تسامح المجتمع الفرنسي تجاه الديانات الأخرى خصوصًا الإسلام.. وانتشار اعتقاد في الأوساط الفرنسية بأنه لا يوجد مسلمون معتدلون".
وفي خضم تسارع الأحداث يتم تجاهل حقيقة مفادها أن من قاموا بالعملية أغلبهم مواطنون أوروبيون مهما اختلفت جنسياتهم )فرنسيون وبلجيكيون(، وحتى إن كانت أصولهم عربية ومسلمة فإنهم وُلدوا وترعرعوا في أوروبا وأغلبهم مسلمون بالوراثة فقط ولا يتقنون سوى لغة الدولة التي وُلدوا فيها وعاشوا فيها ولم يسبق لهم حتى زيارة الوطن الأم لآبائهم وأجدادهم، أي أنهم تشبعوا بالفكر المتطرف في سن مبكرة في حضن أوروبا، وهو ما يطرح تساؤلًا مشروعًا حول طبيعة البيئة التي نشؤوا فيها وكيفية تعامل البلدان الأوروبية معهم، ففي الضواحي الفقيرة والمهمشة تعيش أعداد كبيرة من الجاليات المسلمة، وهؤلاء -كما يؤكد أحد رجالات التنظيمات المدنية المسلمة في فرنسا- اعتنقوا الفكر المتطرف عن طريق "الإنترنت" غالبًا التي تصعب مراقبتها، ويتم استغلال مستواهم العلمي والثقافي المحدود، إذ إن أغلبهم منقطع عن الدراسة ويعيش على هامش المجتمع، والنتيجة أن مواطني الدول الأوروبية من بين أكبر مصادر المقاتلين الأجانب في صفوف "داعش" وغيرها من التنظيمات الإرهابية.
صحيح أنه لا مبرر للإرهاب، وصحيح أن قتل المدنيين والإرهاب وانتهاج العنف أمر منبوذ ومرفوض ويتنافى مع القيم الدينية والإنسانية، ولكن إذا أردنا محاربة الإرهاب فيجب أن نعترف بأن له أسبابه التي تجد جذورها العميقة في بيئة حاضنة توفر له أسباب النمو والتوسع في ظل التهميش والتمييز والعنصرية والنظرة الدونية واللا مساواة، واستغلال جهل شباب يافعين ومنقطعين عن أصولهم بقيم التسامح ونبل جوهر الرسالة الإنسانية للإسلام، وانتشار الفكر المتطرف مستغلًّا التطورات التكنولوجية، كل ذلك لا يمكن معالجته بتشديد الخناق على الجالية المسلمة والتضييق عليها بعد كل عمل إرهابي، لأن ذلك من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية ويُذكي نار الحقد والإحساس بالإحباط والتهميش لدى شرائح أوسع في أوساط تلك الجالية، وهو ما يمكن أن تستغله التنظيمات المتطرفة لتجنيد عدد أكبر من الشباب، ويهدد حظوظ الجالية المسلمة في الاندماج الذي يكفل لها الحفاظ على قيمها من جهة والتعايش مع قيم الدول المستضيفة من جهة أخرى في صورة متوازنة لا تزال بعيدة عن التجسيد في المدى المنظور، بسبب حصر الجالية المسلمة بين مطرقة التهميش والاغتراب من جهة وسندان الإسلاموفوبيا والإرهاب من جهة أخرى
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة