القراءة المعمّقة للوثيقة توضّح لنا حقائق مثيرة للانتباه، تجعلنا إخوة كالبنيان المرصوص، وكالجسم البشريّ، الذي إذا مرض عضو من أعضائه، تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
يبدو جليّا جدّا أن الإمارات العربية المتحدة التي تشبه اليوم النخل العالي والغالي، الذي يُعطي أطيب الثمر، يبدو أنها قد تركت أثرا بالغا في مسيرة الإنسانيّة، أثرا سيستمرّ لعقود طوال، وسيتذكّره التاريخ لقرون أطول، أثر الأخوّة الإنسانية، تلك الوثيقة التي غيَّرت الطباع وبدّلت الأوضاع، وبات لها نصيب الأسد من تفكير القائمين على صناعة القرار في قلب الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة، وعبر الهيئات البابويّة المختلفة، والتي صار اسم الوثيقة محبوبا ومرغوبا منها إلى درجة إقران الاسم بالكثير من الوثائق الصادرة في الحال، وحتما في الاستقبال.
ما الذي يستدعي هذا الطرح في هذا التوقيت؟
قبل بضعة أيّام أصدرت الأكاديميّة البابويّة للحياة، والتي تهتم بمتابعة الشؤون الإنسانيّة للبشريّة في حاضرات أيامها، وبغضّ النظر عن الجنس أو اللون أو العرق، وثيقة تحمل عنوان "وباء وأُخُوّة عالميّة"، والغرض الرئيس منها مناقشة حالة الطوارئ العالميّة الناجمة عن انتشار فيروس كورونا. ما الذي تحويه الوثيقة في متنها؟.
باختصار غير مخلّ، إنّها تسعى في طريق تطوير أخلاقيّات المخاطرة، وتنفيذ التعاون الدوليّ، وكذا تعزيز التضامن المسؤول بين البشر، أي أنّها باختصار تضع الإنسانية كأخوّة في مواجهة هذا الوباء وتلك الجائحة، لا سيّما مع الأخبار التي بدأت تتواتر والمتوقّعة من أسف عن موجة ثانية من الانتشار في الخريف الذي يبدأ خلال شهرين.
تطرح الوثيقة أسئلة فلسفيّة عميقة، تستدعي التفكّر الإيمانيّ والوجدانيّ في حال الكوكب الأزرق ومن عليه، وفي المقدمة منها: "ما هي الدروس العمليّة التي تعلّمتها البشريّة وسط غمرة الألم من هذا التفشّي المريع لفيروس كوفيد -19 المستجد؟"، ومنها كذلك ما هو ارتداد الفكر والعمل الذي نحن مستعدّون لمواجهته، باسم العائلة البشريّة؟.
القراءة المعمّقة للوثيقة توضّح لنا حقائق مثيرة للانتباه، تجعلنا أخوة كالبنيان المرصوص، وكالجسم البشريّ، الذي إذا مرض عضو من أعضائه، تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
الدرس الأوّل الذي تتوقّف أمامه الوثيقة هو الحياة في حدّ ذاتها كعطيّة مجّانيّة من الخالق جل وعلا، هذه الحياة التي استلبت من الكثيرين خلال الجائحة ولا تزال، جعلتنا ندرك ارتباط جميع الأشياء بعضها ببعض، وفتحت أعيننا على أن ما جرى خلال عقود النيوليبراليّة والرأسماليّة الحديثة، وتحت غطاءات اقتصاديّة منحرفة مثل حرّيّة السوق وما شابه، من نهب للأرض، وتعظيم خيارات اقتصاديّة قائمة على الطمع ومبدأ الربح من غير أدنى التفاتة إلى جوعى الأرض والمهانين والمجروحين في كرامتهم، عطفا على الاستهلاك المفرط وازدراء الخليقة، كلّها أمور كان لها عواقب على انتشار الفيروس أيضا.
ولعلّ الناظر إلى القارّة الأوروبية بنوع خاصّ، يدرك كيف أن الأوربيّين قد أغلقوا الحدود في وجه بعضهم البعض، على الأقل في الأوقات الصعبة من الموجة الأولى للوباء، وبدا جليّا أن هناك أزمة في مفهوم الأخوّة الأوروبيّة، وبدا وكأن الزمن يعيد عقاربه إلى الوراء، حين استنارت أوروبا بالكثير من أضواء وعلوم وأخلاقيّات العرب، ووجد الأوروبيّون في وثيقة الأخوّة الإنسانيّة المعنى والمبنى القادر على استنهاض الجهود.
وعلى جانب القوى الكبرى، لا سيّما الصين والولايات المتّحدة الأمريكيّة، لا يزال الصراع قائما وقادما حول ما ورائيات انتشار الفيروس، وهل هو محضر معمليّا، أم أنّه طبيعيّ، وإذا كان ذلك فهل جاء تسربه عمدا أم على سبيل المصادفة، ووسط هذه الأسئلة تناسى الجميع فكرة الأسرة البشريّة الواحدة المهدَّدة بالهلاك، إن لم يبادر الجميع إلى الفكر الواحد والقلب الواحد لإنقاذ العالم من هذا الفيروس الشائه.
تدعو وثيقة "وباء وأخوّة عالمية"، إلى تعاون في الجهود من أجل تبادل المعلومات وتقديم المساعدة وتخصيص الموارد، وإيلاء اهتمام خاصّ لتطوير العلاجات واللقاحات، لأن غياب التنسيق والتعاون في هذا المجال يشكّل في الواقع عقبة في العلاج ضدّ وباء فيروس كورونا.
أظهر فيروس كورونا بحسب الوثيقة عوارا كبيرا في منظمة مجتمعاتنا المعاصرة، الأمر الذي يستدعي علاجا ناجعا لا طريق إليه إلا المزيد من أواصر الأخوة، فقد كان غياب العدالة الاجتماعية والتنسيق والتعاون، ولا يزال عقبة أساسيّة في طريق علاج الوباء، وقد تسبّبت الفجوة الواسعة بين الدول الغنية ونظيرتها الفقيرة إلى أن تدفع الأخيرة ثمنا مضاعفا من أرواح أبنائها لافتقارها إلى أدوات المقاومة الطبية.
وكعادة الوثائق الفاتيكانيّة، فإنها تخرج على العالم بمصطلحات مثيرة ربّما للجدل، لكنّها تدفع المفكّرين لمناقشة القضايا المصيريّة خارج نطاق المعروف والموصوف والمألوف.
على سبيل المثال تناقش هذه الوثيقة ما يعرف بـ"أهمية أخلاقيّات المخاطرة أولا"، والمعنى والمبنى هنا هو ضرورة وجود بروتوكولات للأخوة الإنسانيّة تضع في الاعتبار الأشخاص الذين تكون صحّتهم وحياتهم وكرامتهم في خطر أكبر.
تأخذنا الوثيقة بروح الأخوة الإنسانيّة في طريق مغاير لدروب الربح، والربح الوفير المغالى فيه من قبل جماعات الضغط الخاصّة بصناعات الأدوية والتي تكون "كارتلات" عالميّة، لا يقل ضرّها أحيانا عن نظيرتها في عالم المخدّرات وتجارة الأسلحة، إذ تأمل الأكاديميّة الحبريّة للحياة من خلال سطور الوثيقة إجراء بحث علميّ مسؤول، أي متكامل وخالٍ من تضارب المصالح ويستند إلى قواعد المساواة والحرّيّة والإنصاف، انطلاقا من أن خير المجتمع والخير العامّ في قطاع الصحّة يأتيان قبل أيّ اهتمام بالربح، وبالتالي لا يمكن التضحية بالبعد العامّ للبحث على مذبح المكاسب الخاصّة.
يطلب البابا فرنسيس من شعوب الأرض التي يتوجّب عليها أن تحيا الأخوّة الإنسانيّة التفكُّر مليّا في العلاقات التي تُوحِّد الجماعة البشريّة، وتولد القيم والأهداف المشتركة والمتبادلة، وأن نفتح أعيننا على هذا الوباء الذي يكاد يقضي على الأخضر واليابس.
الوثيقة الفاتيكانيّة الجديدة امتداد وعمق روحيّ لوثيقة الأخوّة الإنسانيّة، وتضعنا أمام خيار جوهريّ: "هل سنحاول إنقاذ أنفسنا من خلال المضيّ قدما كإخوة، أم أنّنا مصرّون على التجديف في اتّجاهات متضادّة لنهلك معا؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة