ما جعل الديمقراطية تعيش مأزقا كبيرا لم يكن فقط آليات إخفاقها من الداخل، وإنما ظهور منافس جديد لا يختلف مع الديمقراطية في ضرورة الرأسمالية.
النظم السياسية في عمومها تقوم بوظيفتين: الأولى أنها تسمح لأفراد المجتمع بالمشاركة في اتخاذ القرارات التي تنظم المجتمع وتعبئ موارده وتوزعها. والثانية أنها تتحمل مسؤولية تقدم الدولة كلها بحيث يكون كل جيل منها أفضل من سابقه في الحرية والعيش والكرامة. وحتى نهاية الحرب الباردة مع سقوط حائط برلين في نوفمبر ١٩٨٩، فإن دول العالم في أغلبيتها كانت تدار من خلال نظامين: النظام الرأسمالي الديمقراطي الغربي؛ والنظام الاشتراكي الشرقي. الأول كان متعدد الأحزاب، ويجري فيه انتقال السلطة من خلال عملية سياسية محددة سلفا عن طريق دستور، وتقوم فيه سلطات ثلاث منفصلة، واحدة منها تقوم بالتشريع، والثانية بالتنفيذ للقوانين والتشريعات والمشروعات، والثالثة تقوم بالتحكيم والفصل في المنازعات والقضايا التي يختلف فيها الناس. والثاني كان غالبا فيه حزب واحد له أيديولوجية واضحة تدعو إلى العدالة والمساواة، وتحقيق ذلك يكون من خلال تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد وآليات التوزيع الاجتماعي.
تنافس النظامان لأربعة عقود وأكثر بعد الحرب العالمية الثانية، وتسابقا في التسلح ومد مناطق النفوذ في قارات العالم. وحينما انتهت الحرب الباردة بينهما بانتصار النظام الأول جرى الإعلان عن "نهاية التاريخ" طالما أن "الرأسمالية والديموقراطية والليبرالية" سوف تكفل للبشر الاكتفاء والسعادة. وبالتأكيد كان في الأمر الكثير من المبالغة التي استدعت بدورها نقدا قاسيا، ولكن وقائع العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول التالي من القرن الواحد والعشرين، شهدت بالفعل نموا هائلا في الدول التي تبنت النظام الديموقراطي الليبرالي الرأسمالي، وجرى ذلك في أوروبا الشرقية ودول شرق آسيا وأمريكا الجنوبية وعدد من الدول الأفريقية.
ولكن العقد الثاني من القرن الحالي شهد تراجعا في هذا التيار، وبات واضحا في كثير من الدول التي تبنته أنها إما تسير على خلاف القواعد العامة المتعارف عليها في الدول الغربية المتقدمة، وإما أنها عاجزة عن تحقيق التقدم لشعوبها نتيجة أشكال مختلفة من الخلل والعجز السياسي. وفي الحقيقة لم تكن الأركان الثلاثة للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي كافية لتحصين الدولة من الخلل الذي يقف في وجه تحقيق الأهداف الأساسية للنظام السياسي. وبشكل ما فإن النظام ذاته خلق الأدوات التي بدأت تنخر في عظامه وتضعه في مأزق تاريخي أدى إلى تراجع عدد كبير من الدول عن اتباعه أو التلاعب في أهم أبعاد عفته واستقامته وثقة الشعوب فيه.
ومن بين متغيرات كثيرة جرت خلال العقدين المشار إليهما، فإن تغييران منهما يستحقان الذكر في هذا المقام. أولهما التطور التكنولوجي الهائل للثورة التكنولوجية الثالثة التي أعطت للمواطن الفرد الكثيرة من القدرة والحرية في استخدامها. ونتيجة أجهزة الكمبيوتر والهاتف المحمول وتوابعهما لم تعد فكرة التمثيل ممكنة وهي الضرورية للتدبر والتمهل والتداول في أمور المجتمع حتى تآكلت يوما بعد يوم، ومن ثم تدريجيا بدأت المؤسسات التشريعية والقضائية في الضعف النسبي. وباختصار ضعف دور المنظمات الوسيطة مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات المختلفة التي كانت تلعب أدوارا مختلف في "تجميع المصالح" و"الضغط المنظم" من أجل إصدار القوانين والتشريعات، وإقرار الاستراتيجيات العليا للمجتمع. وثانيهما أن هذا التطور خلق آليات تكنولوجية يمكن استخدامها في التلاعب بمشاعر وعواطف الأفراد الغالبة بل وتوجيهها في اتجاهات سياسية وتسويق مرشحين.
كانت الولايات المتحدة هي المثال الناصع والمدهش على هذه الظواهر وتغلغلها في الدولة؛ وبينما كان انتخاب باراك أوباما أول الاستخدامات التي احتفى بها العالم بانتخاب رئيس من أصول أفريقية لقيادة الدولة؛ إلا أن الجولة الرئاسية التالية له سمحت بفوز دونالد ترامب رئيسا معتمدا على أصوات التجمع الانتخابي حتى وهو لم يحصل على الأغلبية الشعبية التي راحت لصالح منافسته هيلاري كلينتون وبفارق ثلاثة ملايين صوت. والأخطر أن التجربة الأمريكية فتحت الباب لإمكانيات تدخل دول خارجية في الانتخابات حينما أقر مجمع أجهزة الاستخبارات الأمريكية وتحقيقات مكتب التحقيق الفيدرالي أن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠١٦ لصالح المرشح الجمهوري.
ولم يكن ترامب هو النموذج الوحيد، وإنما ظهر عند التصويت على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والانتخابات في المجر وبولندا والهند وأكرانيا والبرازيل، وعشرات من الدول الأخرى، وبصيغ مختلفة. سمح التطور التكنولوجي بالظواهر الشعبوية التي استخدمت أساليبا فاشية وعنصرية تارة، ودينية تارة أخرى كما حدث في العديد من الدول الإسلامية التي نجحت فيها جماعة الإخوان المسلمين في فصل غزة عن الضفة الغربية أو الاستيلاء على السلطة في مصر، أو الحصول على أكثرية في تونس. ولأول مرة بات مطروحا السؤال عن مدى نزاهة الانتخابات الأمريكية، وعما إذا كان الرئيس الأمريكي سوف يخرج من البيت الأبيض إذا ما خسر الانتخابات في نوفمبر ٢٠٢٠؟، ولأول مرة في الولايات المتحدة بات ممكنا أن تحتل جماعات مسلحة مجالسَ تشريعية في ولايات أمريكية؛ وإصرار جماعات أخرى مضادة في ولايات أخرى على حرمان الشرطة من التمويل اللازم لممارسة عملها. وفي تونس والعراق ودول أخرى باتت قضية استمرار الدولة في عملها مسألة مضنية، فتشكيل الحكومة كثيرا ما صار عملية مستعصية، وإذا ما تشكلت تبدأ فورا عمليات السعي من أجل سحب الثقة منها، أو السير على طريق عقد انتخابات جديدة لا تفرز دائما تركيبات سياسية جديدة. ولعام كامل عجزت القوى السياسية في إسرائيل عن تشكيل حكومة، وبعد أربعة دورات انتخابية جرى اقتسام السلطة؛ ولكن المعركة السياسية لم تنته بعد. وإذا كان قد قيل إن الديمقراطية هي النظام الوسط ما بين قطبي الفوضى في ناحية، والسلطوية الديكتاتورية أو الأوتوقراطية في ناحية أخرى؛ فإن نتاج التغيرات التكنولوجية العميقة كان التحرك في اتجاه قطب الفوضى والعنف الداخلي خاصة إذا ما كان في الدولة تقسيمات عرقية ودينية ومذهبية. ما سمي بالربيع العربي في عدد من الدول العربية كان شاهدا على مأزق الديمقراطية وصبغها بصبغة دموية ساخنة.
ما جعل الديمقراطية تعيش مأزقا كبيرا لم يكن فقط آليات إخفاقها من الداخل، وإنما ظهور منافس جديد لا يختلف مع الديمقراطية في ضرورة الرأسمالية، أو اقتصاد السوق الحرة، أو السوق الاجتماعي، وكلها مسميات بديلة لا تخفي الجوهر الواحد. ولكن المنافس يختلف في الآلية السياسية للعمل والتي تنقل السلطة إلى يد التكنوقراط القادمين من مصادر مدنية وعسكرية. هذا المنافس يمكن تسميته النظام التكنوقراطي الذي يعتمد على قدرات التكنولوجيات الحديثة في تنظيم المجتمع وتحقيق أهدافه في التقدم والرخاء. النموذج الذي قدمته الدول الآسيوية التي حققت الكثير من التقدم وعرفت بالنمور والفهود الآسيوية لم تكن معتمدة لا على الديمقراطية الغربية، ولا على نظام الحزب الواحد الشيوعي، وإنما على مزيج من السلطة المركزية أيا كانت قواعد قوتها فردا أو حزبا أو جيشا، والقدرات الفنية التقنية على إدارة مجتمعات حديثة. أصبح الإنجاز في الدولة هو شرعية النظام التكنوقراطي. الأصول التاريخية للنظم السياسية في دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتشيلي وتايوان، ورغم أنها أخذت بعض أشكال النظم الديمقراطية، إلا أنها لم تكن لتولد إلا في ظل الجنرال بارك، أو لي كوان يو؛ وهؤلاء خلقوا تحالفات تكنوقراطية داخلية نجحت جميعها في تنظيم المجتمع، ورفع الأداء فيه، وتوليد الثروة والازدهار الاقتصادي. هذا النموذج نجد بعض ملامحه في دولة الإمارات والسعودية ومصر والجزائر والسودان ربما في المستقبل غير البعيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة