لا يمكن إنكار أنه كانت هناك بعض الأمثلة السلبية أثناء تفجر الجائحة مثل استخدام الشركات الكبيرة قوتها لممارسة ضغط ضد المشروطية
في بداية شهر مايو الماضي نشر لي موقع العين مقالا تحت عنوان "كورونا ودور الدولة الاقتصادي" أشرت فيه إلى أن فترات الأزمات تأتي بعدد من التغيرات في النظام الاقتصادي، وربما كانت أبرز التغيرات هي تلك المتعلقة بدور الدولة الاقتصادي.
ويمكن القول إن سقوط بعض الأفكار وصعود بعضها الآخر يأتي في الغالب في ظرف أزمة عميقة.
هكذا كان الحال مع صعود الفكر الكينزي في أعقاب الكساد العظيم في الثلاثينيات بدعوته لدور اقتصادي قوي للدولة، ثم أيضا مع صعود الفكر النيوليبرالي في أعقاب أزمة الركود التضخمي في منتصف السبعينيات ودعوته إلى انسحاب الدولة من أي دور اقتصادي لها.
وهكذا كان الحال أيضا مع الأزمة المالية العالمية وتحولها إلى ركود واضح في الدول الصناعية المتقدمة في عام 2008.
ونرى موقفا مماثلا الآن مع أزمة تفشي فيروس كورونا والإغلاقات الاقتصادية وما ترتب عليها من ركود اقتصادي وتسريح للعمال، حيث نرى تدخلا من جانب كافة بلدان العالم في حقن النظام الاقتصادي بالسيولة وإقرار سياسات مالية ونقدية عبر خطط للتحفيز الاقتصادي هائلة وغير مسبوقة من حيث الحجم.
وقد سارع البعض للقول بأن هذا التدخل سيعد واحدا من معالم اقتصاد ما بعد كورونا، وتحفظنا في المقال المشار إليه من هذا الاستنتاج.
وأهم أسباب هذا التحفظ هو أن الركود الحالي لم يكن ركودا معتادا بسبب انخفاض في الطلب الفعلي، بل هو ناجم عن أزمة صحية أجبرت دول العالم على إغلاق الأنشطة الاقتصادية، وترتب عليها مشكلات في كل من جانبي العرض والطلب.
من الصعب إذا النظر لهذا الركود على أنه جزء من الدورة الاقتصادية المعتادة من الركود والازدهار وتوجيه اللوم لطرف ما باعتباره مسؤولا عنه، كما كان الأمر مع القطاع المالي في أزمة عام 2008 مثلا.
إلى جانب ذلك فأغلب التوقعات تذهب إلى أنه بعد احتواء فيروس كورونا، ستسجل أغلب اقتصادات العالم توسعا اقتصاديا من جديد.
لهذا قد يقتصر الدور الأقوى للدولة ما بعد كورونا على بعض القطاعات مثل القطاع الصحي، أما فيما عدا ذلك ففي غمار الازدهار الاقتصادي سينسى أمر تدخل الدولة ويعود النظام للعمل كما كان يعمل انتظارا لتحول جديد مع الأزمة القادمة بغض النظر عن سبب تفجرها.
فيروس كورونا والركود يقدمان فرصة نادرة من أجل إعادة التفكير في دور الدولة، وخاصة فيما يتعلق بعلاقتها بقطاع الأعمال.
والواقع أن هناك دعوات متزايدة الآن من طرف بعض الاقتصاديين الغربيين إلى استغلال فرصة الأزمة لإجراء ما يمكن تجاوزا القول إنه إعادة ضبط للنظام الرأسمالي.
إذ يرون أنه مع الإنفاق الحكومي الضخم لإنقاذ الصناعات وتخفيف الانهيار الاقتصادي الناجم عن كوفيد 19، فعلى الحكومات أن توجه اقتصاداتها نحو مستقبل أكثر استدامة.
ويرون أنه بدلا من أن يعد استخدام مساعدة الدولة لتغيير سلوك القطاع الخاص أمرا من المحرمات، فإنه يعد أمرا من أمور الفطرة السليمة.
ففيروس كورونا والركود يقدمان فرصة نادرة من أجل إعادة التفكير في دور الدولة، وخاصة فيما يتعلق بعلاقتها بقطاع الأعمال. فالافتراض الذي تم التمسك به طويلا وهو أن الحكومة تعد عبئا على اقتصاد السوق ثبت فشله.
وإعادة اكتشاف الدولة "كمستثمر الملاذ الأول" عوضا عن أن تكون مجرد "مقرض الملاذ الأخير"، أصبح شرطا مسبقا من أجل أي سياسة اقتصادية فعالة فيما بعد عصر كورونا.
والواقع أنه بسبب الأزمة حدث ارتفاع كبير في الاستثمار العام. فقد تم ضخ نحو 9 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي.
فقد تبنت الولايات المتحدة خطة تحفيز وإنقاذ تبلغ قيمتها 3 تريليونات دولار، وقدم الاتحاد الأوروبي خطة إنعاش تصل قيمتها إلى 850 مليار دولار، ووجهت اليابان تريليون دولار كمساعدة للعائلات وقطاع الأعمال.
ويرى بعض الاقتصاديين أنه من أجل أن تقود الاستثمارات إلى اقتصاد أكثر صحة ومرونة وإنتاجية فالمال وحده ليس كافيا.
فعلى الحكومات أيضا أن تستعيد دورها في تصميم وتنفيذ وفرض مشروطية على المتلقين للمساعدة، من أجل أن يعمل القطاع الخاص بطريقة تؤدي إلى نمو مستدام واحتوائي أي يشمل الجميع.
ويتخذ دعم الحكومة للشركات العديد من الأشكال، تشمل تقديم سيولة نقدية مباشرة، والإعفاء الضريبي وتقديم قروض بشروط جيدة أو تقديم ضمانات حكومية، هذا إلى جانب الدور الواسع للبنوك المركزية، التي اشترت سندات الشركات على نطاق واسع.
وعلى هذه المساعدة أن تأتي مع قيود مرتبطة بها، مثل أن يطلب من المشروعات أن تتبنى أهدافا محددة لخفض الانبعاثات الضارة بالبيئة أو أن تعامل موظفيها باحترام "فيما يتعلق بكل من الأجور وظروف العمل"، أي التركيز على الأهداف البيئية والمسؤولية الاجتماعية للشركات.
وهناك بعض الأمثلة الجيدة التي تم تنفيذها بالفعل. فكل من الدنمارك وفرنسا منعتا المساعدة عن أي شركة مسجلة في بلدان الملاذ الضريبي، وطالبت أيضا بمنع المستفيدين الكبار في الشركات من تلقي توزيعات أرباح أو إعادة شراء أسهم شركاتهم حتى عام 2021.
وفي المملكة المتحدة، ضغط بنك إنجلترا المركزي من أجل التوقف لفترة مؤقتة عن توزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم.
ويشير هؤلاء إلى أنه بدلا من النظر إلى الشروط المفروضة على أنها دعوة للاقتصاد الموجه، ينبغي النظر إليها على أنها تساعد على توجيه الموار المالية بشكل استراتيجي، وضمان أنه سيتم إعادة استثمار هذه الموارد بطريقة إنتاجية بدلا من أن تستولي عليها فئة ضئيلة.
وهذا المنهج هو الأمر الأكثر أهمية أخذا في الاعتبار أن العديد من القطاعات التي هي بحاجة أكثر للإنقاذ هي أيضا من بين القطاعات الاستراتيجية اقتصاديا، مثل شركات الطيران وصناعة السيارات.
فقد تم منح شركات الطيران الأمريكية على سبيل المثال نحو 44 مليار دولار في شكل قروض وضمانات قروض، مع شرط احتفاظ الشركات بـ 90% من قوتها العاملة، وخفض ما يدفع للمسؤولين التنفيذين، وتجنب عمليات التعهيد أو الاستعانة بمصادر أجنبية.
وقد جعلت النمسا شروطها من أجل إنقاذ شركة الطيران تحقيق أهداف مناخية. كما فرضت فرنسا أيضا أهدافا تختص بتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لمدة خمس سنوات.
وبالمثل رأت العديد من البلدان، التي خشيت من خسارة صناعة السيارات الوطنية، أن خطط الإنقاذ تعد فرصة لفرض التقدم نحو قطاع يهدف للتخلص من الكربون.
وكما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا "نحن لا نريد فقط إنقاذ الصناعة ولكننا نريد تحويلها".
فمع تقديم 8 مليارات يورو كقروض للقطاع طلبت الحكومة الفرنسية من القطاع أن ينتج أكثر من مليون سيارة طاقة نظيفة بحلول عام 2025.
ومع تلقي شركة رينو لصناعة السيارات 5 مليارات يورو كان عليها الالتزام بفتح مشروعين رئيسيين في فرنسا، وأن تساهم في مشروع فرنسي ألماني لإنتاج البطاريات الكهربائية.
وفي بعض الحالات ذهبت الحكومات لأبعد من فرض شروط إلى تغيير نماذج الملكية، فالحكومة الألمانية حصلت على أسهم في شركات الطيران، أما الحكومة الفرنسية فقد زادت من حصتها من الأسهم وقد بررت الحكومتان ذلك بأنه من أجل الحفاظ على البنية الأساسية الوطنية الاستراتيجية.
على الجانب الآخر لا يمكن إنكار أنه كانت هناك بعض الأمثلة السلبية أثناء تفجر الجائحة، مثل استخدام الشركات الكبيرة قوتها الاحتكارية أو قوتها التفاوضية المهيمنة في السوق لممارسة ضغط ضد المشروطية، أو استغلت دعم البنوك المركزية، والذي يأتي عادة مع شروط قليلة أو بدون شروط على الإطلاق.
استطاعت شركة إيزي جيت في المملكة المتحدة على سبيل المثال الحصول على 600 مليون جنيه إسترليني من السيولة النقدية من بنك إنجلترا المركزي على الرغم من أنها كانت قد قامت بتوزيع 174 مليون جنيه كأرباح قبل ذلك بشهر واحد.
كما أدى قرار الاحتياط الفيدرالي "بنك الولايات المتحدة المركزي" بالبدء في شراء السندات ذات المخاطر المرتفعة إلى إثارة الكثير من المخاوف.
فعلى سبيل المثال من بين من سيستفيد من هذا القرار منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة، المثقلين بالفعل بالكثير من الفروض وكان أغلبهم لا يحقق أرباحا حتى قبل أن يتفشى الوباء.
ووفقا لهذا التيار الاقتصادي فإنه عوضا عن أن تكون خطط الإنقاذ المشروط خطوة في اتجاه تحكم الدولة في الاقتصاد، فإنها تثبت أنها أداة فعالة لتوجيه القوى الإنتاجية تجاه الأهداف الاستراتيجية المشتركة للمجتمعات.
ولو تم تصميم وتنفيذ هذه الشروط بشكل غير صحيح، أو تم تجنبها كليا، فإن ذلك يمكن أن يقلص من الطاقة الإنتاجية ويسمح لفئة ضئيلة باستخلاص الثروات لنفسها.
ولكن حينما يتم وضع وتنفيذ هذه الشروط بشكل صحيح، فبإمكانها أن تجعل سلوك الشركات يتماشى مع تلبية حاجات المجتمع، وضمان نمو مستدام وعلاقات أفضل بين العمال والشركات.
وبرأي هذا التيار لو أردنا ألا تذهب هذه الأزمة هباء فإن هذا ينبغي أن يكون جزءا من موروث ما بعد كورونا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة