إن مشكلة تركيا مع "العمال الكردستاني" والأكراد عموماً هي واحدة من جملة أزمات عجزت أنقرة على الدوام عن حلّها ويضاف إليها مشاكل الدولة مع السكان الأرمن والعرب وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية في البلاد.
تحاول تركيا باستمرار أن تلعب دوراً أكبر من حجمها في المنطقة من خلال استفزازها للخارج رغم أن قدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تسمح بذلك، فهي على سبيل المثال، تواصل فشلها الذريع منذ عقود بالقضاء على حزب "العمال الكردستاني" وهي حركة كردية مسلّحة تأسست عام 1978، ومن ثم بدأت القتال لأجل حقوق الأكراد في تركيا عام 1984.
إن فشل الجيش التركي في عملياته مع مقاتلي حزب "العمال الكردستاني" هي حقيقة دامغة، فقد سبق للرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل وإن اعترف بذلك شخصياً حين وصف اختطاف مؤسس الحزب وزعيمه، عبدالله أوجلان في العام 1999، بـ "أول إنجازٍ لبلاده منذ مئة عام" رغم أن أنقرة حينها لم تكن قد أتمّت مئوية تأسيسها كدولة، وهذا يعني أنها لم تكن قد أنجزت شيئاً يُذكر قبل اختطاف الزعيم الكردي ونفيه في جزيرةٍ معزولة بالرغم من أن جيشها كان قد شنّ هجماتٍ برّية على نطاقٍ واسع ضد مقاتلي حزبه قبل ذلك الوقت.
لقد استمرت المواجهات العسكرية بين أنقرة و"العمال الكردستاني" لأكثر من ثلاثة عقود وكانت النتيجة هي أن مقاتلي الحزب مازالوا متواجدين في كلّ رقعةٍ من تركيا إلى يومنا هذا، رغم أنهم يتمركّزون بشكلٍ أساسي في جبال "قنديل" الواقعة على المثلث الحدودي التركي ـ الإيراني والعراقي. ورغم أن عدد الضحايا من الطرفين تجاوز 40 ألفاً.
ويُضاف إلى الفشل التركي عسكرياً مع "العمال الكردستاني"، الفشل السياسي أيضاً، فقد فشلت أنقرة في كلّ مفاوضاتها مع الحزب والتي بدأت للمرة الأولى عام 1993 في عهد الرئيس الأسبق والراحل تورغوت أوزال، والتي لم تستمر سوى لأشهر بعد أن توفي حينها بشكلٍ مفاجئ وقيل إنه مات مسموماً بعد تآمر جنرالات الجيش عليه. ومن ثم عادت المواجهات العسكرية مجدداً بين أنقرة و"الكردستاني" بعد هدنةٍ دامت لأقل من شهر، واستمر القتال لما بعد اختطاف أوجلان أوائل 1999.
وبعد وصول حزب "العدالة والتنمية" الذي يقوده الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان إلى الحكم بسنوات، حاول أيضاً إجراء تسويةٍ مع "العمال الكردستاني"، فقد حصلت المفاوضات بين الطرفين، لكن أنقرة فشلت كعادتها رغم أن المفاوضات استمرت من العام 2009 إلى 2015 وخلال تلك الفترة التقى برلمانيون أكراد وأتراك بأوجلان في سجنه عشرات المرات. وكذلك التقى به مندوبو الاستخبارات التركية. وكل ذلك بموافقة أردوغان الذي فشل في إجراء أي تسويةٍ مع "الكردستاني" رغم وجود نية كبيرة لدى زعيمه المعتقل بالمضي قدماً في تلك المفاوضات.
وإلى جانب الفشلين السياسي والعسكري، تفشل أنقرة اقتصادياً واجتماعياً أيضاً، فمن جهة تكلف عملياتها العسكرية ضد "العمال الكردستاني" مليارات الدولارات سنوياً من خزينة الدولة، ومن ناحية أخرى تؤدي لشرخٍ اجتماعي كبير بين السكان الأكراد المتطلعين لنيل حريتهم والقوميين الأتراك الرافضين لذلك.
إن مشكلة تركيا مع "العمال الكردستاني" والأكراد عموماً هي واحدة من جملة أزمات عجزت أنقرة على الدوام عن حلّها ويضاف إليها مشاكل الدولة مع السكان الأرمن والعرب وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية في البلاد. ومع ذلك يحاول المسؤولون الأتراك التدخل في شؤون دول الجوار كما في العراق وسوريا وأرمينيا واليونان وقبرص وغيرها من دول المنطقة.
والسؤال الآن: مع وجود هذا الكم الكبير من المشاكل في جعبة أنقرة، كيف تتجرأ على التدخل في شؤون غيرها؟
وبالطبع الإجابة بسيطة وهي كالتالي: إن أنقرة تحاول تصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج وعلى أقل تقدير تسعى إلى توجيه أنظار مواطنيها إلى مكانٍ آخر، وإلا لماذا يتهجّم وزير الدفاع التركي على دولة الإمارات ويوجّه إليها اتهاماتٍ باطلة؟ رغم أن الجيش التركي هو الذي يرعى الجهات الإرهابية ويشرف على أنشطتها في سوريا وليبيا وغيرها من الدول!
طيلة السنوات الماضية وبينما كانت دولة الإمارات تحارب الفكر الإخواني والجماعات الإرهابية كشريكٍ مهم في التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد "داعش"، كانت أنقرة تفتح أبوابها لكلّ متطرّفي العالم للتوجّه إلى سوريا والعراق، ولم يكن لديها أدنى مشكلة مع وجود تنظيم "داعش" الإرهابي على حدودها الجنوبية.
ببساطة شديدة إن أنقرة ومسؤوليها يعيشون في الأوهام، فهم يحاولون لعب دور القرصان في المنطقة لنهب الثروات النفطية من بعض الدول وإعادة سلطنتهم إليها، كما يحصل في ليبيا والعراق وقبرص وسوريا، لكنهم فاشلون حتى في القرصنة والتوسع ويكررون فشلهم الداخلي في الخارج أيضاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة