إن إمكانية خنق إقليم كردستان إذا ما أقدم على إعلان الاستقلال ليست بخافية على زعمائه..
بنظرة سطحية عابرة يمكن القطع بأن إقليم كردستان هو إقليم قابل للحياة اقتصادياً، على الأقل وفقاً لما يمتلكه من ثروات طبيعية، وفي ظل عدد سكانه البالغ نحو خمسة ملايين شخص. حيث يقدر أن الاقليم يحتوي على نحو 45 مليار برميل من النفط، كما يعتقد أن هناك ثروات من الغاز الطبيعي ما زال استكشافها في مراحله الأولى. والإقليم بالفعل ينتج حالياً ما يزيد على 600 ألف برميل يومياً من النفط، علاوة على المطالبة اللحوحة بتبعية منطقة كركوك الغنية بالنفط للإقليم، وإدخالها ضمن المناطق التي أجري فيها الاستفتاء.
إن إمكانية خنق إقليم كردستان إذا ما أقدم على إعلان الاستقلال ليست بخافية على زعمائه، ولذا فالأرجح أنهم يسعون لاستغلال نتيجة الاستفتاء في الضغط من أجل الحصول على وضعية أفضل للحكم الذاتي، وبالذات في المجال الاقتصادي، وبالطبع ستظل نتيجة الاستفتاء سيفاً سياسياً مسلطاً يمكن إشهاره في أي لحظة
والواقع أن القضية لا تتعلق بمدى وفرة الموارد في الإقليم، ولكن بطبيعة الإقليم ذاته كأرض مغلقة، ليس لديه أي منفذ بحري يمكنه من خلاله القيام بعملية تصدير منتجاته واستيراد ما يحتاجه من الخارج. فالإقليم يعتمد بشكل حصري على تصدير النفط عبر تركيا، إما عبر الشاحنات أو عبر خط الأنابيب الذي ينقل النفط من كركوك إلى ميناء جهان التركي. إضافة بالطبع لحصول الإقليم على كافة ما يحتاجه من الخارج عبر تركيا وإيران والأراضي العراقية خارج الإقليم.
في ظل هذه الحتمية الجغرافية كيف يمكن قيام دولة كردية قابلة للحياة اقتصادياً، مع رفض كافة الأطراف المحيطة بالإقليم لاستقلاله؟ إذ بوسع هذه الدول خنق الدولة الوليدة في لحظات. وتعي هذه الدول ذلك بوضوح، ولذا كانت ردود فعلها إزاء الإصرار على إجراء الاستفتاء تتمثل في التهديد بإحكام إغلاق حدودها في حال تم إعلان استقلال الإقليم، وفرض عقوبات اقتصادية. ومع الوضع في الاعتبار أن كافة الدول الكبرى إلى جانب الأمم المتحدة قد أعلنت بدورها رفضها لإجراء الاستفتاء، فليس هناك نصير دولي ذو نفوذ يمكنه الضغط من أجل حق عبور سلع وبضائع هذه الدولة المغلقة المزمعة.
ولا يقدِّم القانون الدولي بدوره أي مساندة في هذا الشأن. إذ على الرغم من أن هناك أساساً قانونياً لحقوق المرور للبلدان المغلقة وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون البحار، إلا أنه من الناحية العملية ووفقاً لنفس الاتفاقية، لا بد من الاتفاق على حق العبور مع الدولة الجار التي سيتم عبور أراضيها، حيث يتحدد هذا الحق على أساس العلاقات بين الطرفين.
بكل تأكيد إن أمر إمكانية خنق إقليم كردستان، إذا ما أقدم على إعلان الاستقلال ليست بخافية على زعمائه، ولذا فالأرجح أنهم يسعون لاستغلال نتيجة الاستفتاء في الضغط من أجل الحصول على وضعية أفضل للحكم الذاتي، وبالذات في المجال الاقتصادي. وبالطبع ستظل نتيجة الاستفتاء سيفاً سياسياً مسلطاً يمكن إشهاره في أي لحظة عند حاجة قادة الإقليم. والمهم في الأمر أن الرئيس مسعود البرزاني نفسه أعلن أنه لن يتم إعلان الاستقلال فوراً، مطالباً بالتفاوض مع السلطة المركزية في بغداد.
ويعد تمسك الأكراد بكركوك هنا نقطة مفصلية لا تتعلق بمطالبات تاريخية، بقدر راهنية وأهمية كركوك في تقرير المآل النهائي للتفاوض. فكركوك ورقة ضغط مهمة ليس فقط لاحتياطاتها النفطية الكبيرة، ولكن وربما الأهم لخط الأنابيب الذي ينقل النفط منها لتصديره عبر ميناء جهان التركي، حيث تبلغ طاقة هذا الخط القصوى نحو 1.1 مليون برميل يومياً. وإعادة تأهيل الخط تمكّنه من حمل كمية من النفط من الحقول الواقعة في إقليم كردستان للتصدير عبر تركيا. وحيث تحصل تركيا على قسم من هذا النفط لاستخدامها المحلي فيمكن أيضا لهذا الخط أن يقدم حافزاً إضافياً للأتراك على التفاعل إيجابياً مع مطالب الأكراد، دون الاستقلال، في تفاوضهم مع حكومة بغداد. وقد سبق لتركيا وسمحت بتصدير نفط الإقليم عبر موانيها رغم اعتراض الحكومة المركزية في بغداد.
بالنسبة للمناطق الصغيرة المغلقة مثل إقليم كردستان، تكمن مشكلتها في التجارة الدولية في تحملها لتكاليف أعلى نسبياً، إذ عليها تحمل تكاليف أعلى نسبياً للنقل. واعتماد هذه البلدان على جيرانها من أجل توفير مدخل للبحر هو نقطة ضعف، لأن بلدان المعبر نحو البحر ربما تفرض عليها أسعاراً احتكارية مقابل خدمة الترانزيت والتصدير عبر موانيها، مما يضعف من القدرات التنافسية للمناطق المغلقة. وتعد هذه المشكلة غير قائمة في حالة النفط من كردستان وكركوك، لأن تكاليف إنتاج برميل النفط منخفضة جداً في كردستان تكاد تكون من بين الأقل في العالم، حيث تبلغ 4 دولارات. وهذا المستوى من التكلفة كفيل بالتغلب على ارتفاع تكاليف النقل، إذ حتى عند أسعار النفط الحالية التي تبلغ نحو نصف ما كانت عليه منذ نحو أربعة أعوام؛ سيبقى ريع تصدير النفط الكردستاني مرتفعاً حتى في حال دفع رسوم ترانزيت مبالغ فيها لنقل هذا النفط عبر تركيا، ويوضح ذلك مقارنة تكاليف الإنتاج في الإقليم بالتكاليف في مناطق أخرى من العالم، مثل بحر الشمال الذي تبلغ تكلفة إنتاج البرميل فيها أكثر من 15 دولاراً للبرميل. وبذلك يتيح استخدام خط كركوك إمكانية أيضاً أمام تقديم إغراءات كافية لتركيا، بحصولها على النفط بأسعار تفضيلية، من أجل دعم مطالب الأكراد واستمرار فتح حدودها أمام تجارة الإقليم، طالما لم يقدم على خطوة إعلان الاستقلال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة