عباس العقاد.. موسوعي كتب الشعر واشتبك مع الجميع بـ "الأدب"
تحلّ ذكرى وفاة عباس العقاد "عملاق الأدب العربي" الحاصل على "الابتدائية"، الذي أسس مدرسة للشعر واشتبك مع قامات الفكر دون ريبة أو هوادة.
أن تكون عباس العقاد يعني أن تتسلح بنفسك، أن تكون القراءة والمعرفة هما طعامك وشرابك، ألا تثبط عزيمتك درجة علمية لم تنلها أو تفوق دراسي لم تحققه، بل تصبح صاحب قلم جبار وروح معافرة صلبة لا ترضخ، وتبقى عزيزا متفردا بعد عقود من رحليك.. ولذلك في ذكرى وفاة عباس العقاد ننشغل بمسيرة صاحب "العبقريات".
عباس العقاد
نشأ عباس العقاد وولد في 28 يونيو 1889 في أسوان، تزامنا مع الوقت الذي انتشرت فيه حملات جيش الدراويش (التابع للصومال)،
حين كان يختطف الأطفال ويجندهم، فكانت طفولته "عجيبة غريبة" كما يصفها، فكانت لحظات اللعب في الشارع لحظات ترقب وخوف من هجوم أحد افراد هذا الجيش.
"العقاد تعني المشتغل بصناعة الحرير،
وكان جد جدي يشتغل بمصنع حرير في دمياط وانتقل منها إلى المحلة الكبرى"
ورث عباس محمود العقاد عن والديه الاهتمام بالتنظيم والالتزام بالروتين، فكان والده المسئول عن نظم المحفوظات في مديرية أسوان بعد إهمالها لسنوات>
رغم أنه تربى في بيئة فقيرة ومحدودة الموارد، كان اجتذاب أسوان للسياح الأجانب باعتبارها مشتى رائع فرصة لاتساع أفقه وانفتاحه على حضارات مختلفة.
ارتباط العقاد بالأدب والشعر بدأ منذ صغره، فحبه للغة العربية جاء مع حفظه للقرآن الكريم وهو ما زال في التاسعة من عمره.
كما كان حريصا على حضور مجالس الشيخ أحمد الجداوي، تلميذ جمال الدين الأفغاني، وأول قراءاته كانت "ألف ليلة وليلة"، وتبحر بعدها في الأدب العربي والأوروبي.
محمد عبده يشيد بالعقاد
ويذكر العقاد زيارة الشيخ محمد عبده لمدرسته، فقرر معلم اللغة العربية أن ينتهز الفرصة ويعرض على الشيخ كراسة العقاد الخاصة بالإنشاء.
كانت الموضوعات الإنشائية وقتها تركز على المفاضلة بين أمرين، مثل الذهب أو الحديد، أم الحرب أو السلام،
وكان العقاد في كل مرة يفضل الكتابة عن الجانب الأضعف الذي لن يذكره احد، فيختار الحديد عن الذهب والحرب عن السلام.
عندما قرأ الشيخ محمد عبده تفضيل عباس العقاد للحرب، وأخذ يناقشه عن رأيه، لم يوجل الفتى الصغير من حضور الشيخ المهيب
وظل مدافعا عما يعتقد، فما كان من الشيخ محمد عبد إل أن يبتسم ويضع يده على كتفه، ثم يقول للمعلم كلمة لم ينساها العقاد أبدا: "ما أجدر هذا أن يكون كاتبا بعدُ"
"الابتدائية" وكفى
لم ينل عباس العقاد حظا وفيرا من التعليم، فبعد حصوله على الشهادة الابتدائية كان يتمنى اللحاق بالمدرسة الحربية.
التي ارتبطت في مخيلته بحروب المسلمين التي تبدأ بنظم الشعر، ثم التفت إلى مدرسة الزراعة نظرا لاهتمامه بالنباتات والطيور والزهور، ولكن أشار أحد الأقارب على والده أن يسعى إلى توظيفه.
التحق عباس العقاد للعمل بكثير من الوظائف الحكومية التي كان سرعان ما يضيق بها، ولا تمر عدة أشهر أو سنة على حد أقصى حتى ينتقل من وظيفة إلى أخرى.
عمل بادئ الأمر في مديرية قنا ومصلحة التلغراف والسكك الحديدية، وآخرها كان يعمل غفي الزقازيق
ويذهب منها إلى القاهرة لشراء الكتب بأكثر من نصف راتبه.
العقاد يتحرر من الوطيفة ويتجه إلى الصحافة
"شعرت أن حياة الوظيفة لا تلائمني مطلقا" كان يعتبر الوظيفة نوع من الرق والعبودية، فاتخذ قرارا ثوريا بـ "تطليق" الوظائف جميعها.
اتجه إلى ما يحب وهو الكتابة، فعمل في الصحافة، وكانت البداية مع جريدة الدستور عام 1907 التي اعتاد نشر مقالاته بها.
وظل يقدم المقالات إلى صحف اخرى، منها "الرسالة" و"المؤيد" التي اشترك في تحريرها، و"الأهالي"، و"الأهرام" و"البلاغ.
كانت مقالاته لاذعة ينقد بقسوة وينتصر لقضاياه وفكره بكل إخلاص، ومغ اندلاع ثورة 1919 كانت الفرصة كي يشترك عباس العقاد في عمل وطني،
فكان يكتب المقالات ويحرر الخطابات، للدرجة التي جعلت سعد زغلول يصفه "جبار القلم"
عباس العقاد والعمل الوطني
ومع نشاط الحركة السياسية في مصر، صار عباس العقاد مناصرا لحزب الوفد ولسان حاله، يدافع عنه بقلمه ضد الخصوم، وينصر القضية الوطنية أمام الإنجليز وأتباعهم.
استمرت تجربته السياسية كاملة حتى أصبح عضوا بمجلس النواب، الذي شهد واحدة أشرس معاركه التي كلفته حريته.
ففي أثناء محاولات هدم الليبرالية ونشاط الحراك السياسي الذي انتزعه المصريون انتزاعا، أراد كثيرون تغيير الدستور أو إلغائه.
علم مجلس النواب برغبة الملك فؤاد أن يُسقط عبارتين من الدستور، إحداهما تنص على أن "الأمة مصدر السلطات"، والثانية تشير إلى مسئولية الحكومة أمام البرلمان.
وفي واحدة من جالسات البرلمان لمناقشة الامر، ما كان من عباس العقاد إلا أن طالب بوضوح موقف مجلس النواب من "هذا العبث السياسي".
أضاف "ليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لان يسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته"،
وهي الكلمات التي جاءت صادمة للنواب أنفسهم وأمر ويصا واصف رئيس البرمان بحذف كلمته.
انتشرت كلمة عباس العقاد في الصحف في اليوم التالي، ومع الاحتفاء بشجاعته، استدعته النيابة للتحقيق بتهمة "العيب في الذات الملكية"،
وهو ما كلفه السجن مدة 9 أشهر عام 1930 وفور خروجه توجه إلى ضريح سعد زغلول محملا بكثير من البأس والحزم، ولم يبعده عن السياسة غير الاختلاف مع الزعيم مصطفى النحاس وسياسته منذ عام 1935.
مدرسة الديوان
لم يكن عباس العقاد مرتاحا لتخلي كثير من الشعراء عن الوزن في الشعر، كما استاء من عدم قدرة الشعراء على التجديد.
وسعى بالتعاون مع عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري إلى تأسيس مدرسة "الديوان" الشعرية عام 1921 بإصدارهم كتاب "الديوان في الأدب والنقد"،
وكانت تستهدف التجديد بالاستفادة من التجارب الغربية والتركيز على الوجدان والعواطف.
انتهجت "الديوان" نهجا رومانسيا لا ينقل من القديم ولكن يطلع عليه ومتاثرا بالثقافة الإنجليزية.
وصف العقاد مذهب مدرسته الشعرية "مذهب إنساني مصري عربي"، وكان ميلهم للومانسية وتبجيل الأعمال الفدائية والخلاص من الاستعمار،
قد تم اعتباره هروبا من الواقع إلى الخيال، في حين كانوا مخلصين للثقافة المصرية العربية الإسلامية، معبرين عن الشباب العربي في هذا الوقت.
اهم اعمال عباس محمود العقاد
قبل أن يكون عباس العقاد كاتبا وأديب موسوعيا، كان قارئا أريبا يلتقم كل ما يصادفه ويبحر في المعرفة دون حدود.
"اقرأ للاستزادة من الإحساس بالحياة" فعرف عن التنجيم والحشرات والفلسفة والنقد والسياسة والطب والأدب،
وكان من عادته ان يقرأ يوميا لأكثر من 6 ساعات، فقد يقضي الليل بأكلمه منكبا على كتبه.
قدم عباس العقاد للمكتبة العربية عشرة دواوين شعرية آخرها عام 1934 وكتب النقد والروايات، وقاربت مؤلفاته الـ 90 عملا، أبرزها العبقريات، ونذكر من أعماله:
- ديوان يقظة صباح
- دراسة أبو نواس
- ديوان وهج الظهيرة
- ما يقال عن الإسلام
- ديوان هدية الكروان
- ابن الرومي حيانه من شعره
- ديوان عابر سبيل
- حياة المسيح
- ديوان أعصير مغرب
- الثقافة العربية
- ديوان ما بعد البعد
- الله: الفلسفة القرآنية
- الديمقراطية في الإسلام
- الصديقة بنت الصديق
- الصهيونية العالمية
- هتلر في الميزان
- اللغة الشاعرة
معارك العقاد الأدبية
خلدت صفحات الجرائد وكتب المتابعين والأدباء المعارك الادبية والفكرية التي خاضها عباس العقاد دون أن يخشى في قوله لومة لائم.
فما يفكر به يطرحه بأسلوبه الفذ وينقد ما لا يرضيه في الشعر والفلسفة والسياسة مخلصا لانحيازاته الفكرية،
طال بقلمه طه حسين والرافعي وأحمد شوقي وعائشة عبد الرحمن وعبد الرحمن شكري زميله في تأسيس مدرسة الديوان الشعرية.
كانت السجالات وحروب الكلمات بين العقاد ورموز الأدب والفكر العربي تُثري المشهد الثقافي في مصر.
الذي يفتقد الآن إلى مثل هذه الصراعات القادرة على خلق توجهات جديدة وتقديم حجج موفقة،
ومن بين أشهر معاركه الي ذكرها الكاتب أنور الجندي في كتاب "المعارك الأدبية"، نذكر لكم:
العقاد وطه حسين
رغم أن العقاد يدرك مساهمة طه حسين المتعمقة والمتفردة في الأدب العربي، واعتبره "أقام القنطرة التي كانت ناقصة بين الثقافة العربية القديمة والثقافة اليونانية القديمة.. وعمل على توصيل الأدب العربي القديم واليوناني القديم وقرّب بين قواعد الأدب هنا وهناك.. لكنه لم يتمم بناء القنطرة بالتوصيل بين الأدب العربي الحديث والأدب اليوناني ااحديث" ظل الصراع بينهما محتدما.
بدأ الخلاف مع ميل العقاد للتأثر بالثقافة الإنجليزية "السكسونية" باعتبارها تتمتع بالبساطة والفطرة وتفضيلها عن الثقافة اللاتينية التي يميل إليها طه حسين.
وأخذ السجال بينهما طويلا في مقالات وخطابات، ثم اختلفا حول رؤية العقاد لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، الي كتب أنها تخلو من الخيال.
بينما ردّه طه حسين "زعمه في فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقا في رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد".
وظل الخلاف الفكري بينهما متصاعدا، يصدر العقاد مؤلفا يبادر طه حسين إلى نقده، ويتناول عميد الأدب العربي فكرة يحللها عباس العقاد،
وكان طه حسين نادرا ما يبدا السجال الفكري، بينما كان يسعى له العقاد بشراسة.
حقيقة الخلاف بين العقاد وطه حسين
وبعد وفاة العقاد صرح طه حسين في لقاء تلفزيوني نادر بأنه لا يفهم ما يكتبه العقاد عندما سأله عنه الكاتب أنيس منصور.
يعود ليؤكد "أصرح أنني لم أفهم أي شئ ولا أعرف ما الذي قصده العقاد من العبقريات"، وفي لقاء آخر عن سرّ الخلاف بينهما قال طه حسين:
"ما أثاره هو العقاد لأنه لم يزخر بشهادة أو درجة علمية إنما علّم نفسه فوصل إلى ما أحب ولم ينتسب إلى جامعة،
على حين كنت أنا حاصل على كل الدرجات العلمية، وكان هذا يغيظ العقاد، وأذكر أنه مرة تكلم في مجلس الفنون والآداب، وقال إنه ألف نحو 70 كتابا والجامعة لم تلتفت إليه، ويبدو غاضبا أن الجامعة لم تمنحه الدكتوراة الفخرية.."
واعتقد طه حسين أن عباس العقاد كان يستحق نيل الشهادة الفخرية التي لم تمنحه إياها جامعة القاهرة واي من الجامعات العربية، كونه "خدم الأدب العربي كأحسن ما تكون الخدمة وألف كتبا وكتب مقالات في غاية الاتقان.. ولكن الشئ المؤلم أن الجامعة لم تفكر فيه وأن الجامعات العربية أيضا لم تفكر فيه".
العقاد والرافعي
يقال إن البداية كانت من كتاب الأديب مصطفى صادق الرافعي "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، الذي نال تقديرا من الكتاب والأدباء وأيده سعد زغلول.
في حين كان عباس العقاد قاسيا في نقده للكتاب واتهم الرافعي بتزوير تقدير سعد زغلول له،
وكان قد سبق هذا الموقف بنقد آخر عندما اتهمه بسرقة أحد الأبيات العرية.
ومع شعور الرافعي بالغيظ والحنق الشديد، قام بعدها بفترة بإصدار كتابه "على السفود" الذي انتقد العقاد فيه جملة وتفصيلا وفي كل اعماله الأدبية من النثر إلى الشعر إلى الترجمة والكتابة، وكتب يقول "أما اللغة فهو من أجهل الناس بها وبعلومها، وقلما تخلو مقالة له من لحن، وأسلوبه الكتابي أحمق مثله.. وأحين ما يكتبه هو أحسن ما يسرقه".
يقال إن رد العقاد كان أكثر قسوة للدرجة التي تسببت في مرض الرافعي ووفاته، فقال
"إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا، أغثى الله نفوسكم، لا هوادة بعد اليوم،
السوط في أيدينا، وظهوركم لم تخلق إلا لهذا السوط، وسنفرغ لكم أيها الثقلان".
عباس العقاد وأحمد شوقي
في احتفال بمبايعة أحمد شوقي أميرا للشعراء بدار الأوبرا المصرية عام 1927 حضره سعد زغلول، لم يُرض ذلك العقاد وقال "إن أمة تحتفل بشوقي لا تعرف معنى الكرامة".
كان لا يراه شاعرا بما يكفي، فالمعروف عن العقاد مذهبه الشعري في مدرسة الديوان، وكتب يقول عن شوقي:
"إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها..
وما ابتدع التسبيه لرسم الأشكال والألوان، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس".
واعتبر عباس العقاد أن أحمد شوقي لم يقدم جديدا، بل سار على نهج الشعراء القدامى، وكان يرى أن شعره لم يراعي الوحدة بل كان مفككا.
الشاعر عند العقاد هو من يُعرف بشعره دون أن يكون متأثرا بالقديم، ووصل الحد إلى وصفه شعر شوقي بـ "شعر القشور والطلاء"
وشعر مصنوع لا يدل على شخصية كاتبه ولا طباعه.
كيف مات عباس العقاد؟
رغم هذا المشوار الأدبي والقكري الموسوعي، لم يتربح عباس العقاد من عمله الصحفي السياسي والأدبي ما يجعله يعيش ما تبقى من حياته مرتاحا دون أعباء مادية.
عاش فقيرا يكره أن يمنّ عليه أحد بالمال، باع مكتبته الثمينة ثلاث مرات. ومع كثير من الشائعات التي طالت حياته العاطفية حل العقاد في النهاية وحيدا.
قبل وفاته تعرّض عباس العقاد مرتين إلى محاولات الاغتيال، يُرجح أنها من جماعة الإخوان التي نالها بكثير من الانتقاد
ورفض دعوة مؤسسها حسن البنا، وكان يتلقى التهديدات المتكررة بالقتل، حتى حاول أحدهم اغتياله في منزله عبر إطلاق الرصاص الذي لم يصبه أو عبر متفجرات في سيارته قبل أن يبيعها.
توفي عباس العقاد في منزله بمصر الجديدة في 12 مارس 1964.
منزل العقاد في أسوان
بعد أن أشيع تعرّض منزل عباس العقاد في أسوان إلى الهدم والإزالة.
أعلنت وزارة الثقافة المصرية العمل على ترميمه وتحويله إلى متحف
ومزار فني ينضم إلى المزارات السياحية في محافظة أسوان.
رحل عباس العقاد تاركا للشباب العربي رسالة واضحة "للتفكير قيمة مستقبلية"، محطما أسطورة الألقاب والدرجات العلمية، ونصحهم:
"فكر في واجبك قبل أن تفكر في حقك، واعمل طلبا للإتقان لا طلبا للشهرة والجزاء،
ولا تنتظر من الناس أكثر مما يحق للناس أن ينتظروا منك"