طه حسين.. عميد الأدب ومنقذ التعليم الذي تهدد قبره
الكاتب والمفكر والأستاذ الجامعي والناقد طه حسين الذي لن تحصر الكلمات إسهاماته، ولن يتوقف الحديث عن إبداعه.
لا يعد طه حسين أديبا أثرى الحياة الفكرية، أو فاقدا للبصر تخطى معاناته الشخصية، فهو يفوق ذلك بكثير، كنه أحد عمالقة الحركة الأدبية والثقافية المصرية والعربية، وأول حاصل على الدكتوراة من الجامعة الأهلية (جامعة القاهرة حاليا)، مَنْ كان يجلس أمامه نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وأنيس منصور وغيرهم مجلس التلميذ أمام المعلم، يتطلعون بشغف لمعرفة رأيه ومناقشته والنهل من علمه.
في ذكراه.. طه حسين خاض معارك العقل على كل الجبهات
عميد الأدب العربي طه حسين
من بين ما يتذكر من طفولته حلاق القرية، الذي نذكره نحن أيضا بغضب شديد، لا تجاه شخصه ولكن تجاه الفقر والجهل والإهمال، فالطفل طه حسين علي سلامة، الذي ولد في 15 نوفمبر 1889 بقرية الكليو في مغاغة بالمنيا، كان يعاني من ألما في عينيه ويشكو فقد القدرة على رؤية الأشياء بشكل طبيعي، فيصف حلاق القرية دواءا يعد أنه العلاج الوافي، ولكنه كان الظلام التام.
فقد طه حسين بصره تدريجيا منذ كان ابن الخمسة أعوام تقريبا، ولكنه يتذكر عائلته الأب الذي اعتنى بتعليم أبنائه والأم التي سعت جاهدة أن ترعى 13 طفلا وطفلة، كان طه السابع بينهم، ولكن يبدو ذلك عسيرا، في ظل فقر الإمكانيات وغياب الوعي، ففقدت أصغر الأبناء طفلة رحلت في الرابعة من عمرها دون أن يدري أحد ما أصابها، وشاب أصابته الكوليرا لم ينسَ طه حسين يوم وفاته.
“لو أن الإنسان خلق كاملاً لما احتاج إلى أن يطمع في الكمال”
دراسة الألفية والسفر للأزهر
كان يحب الاستماع إلى قصص النساء الزائرات لوالدته، في غنائهن فرحا أو عديدهن حزنا، ويحضر مع والده حلقات الذكر وحفلات الشاعر الذي يروي السيرة الهلالية وحكاية عنترة ابن شداد.
اهتم والده أن يرسله للكُتاب حيث يمكنه تعلم القرآن وحفظه، واستطاع أن يُتمه سريعا وهو في التاسعة من عمره، ولرغبته في أن يلحق بأخوه الأزهري الأكبر إلى القاهرة ليتعلم في الأزهر الشريف ويحصل على المكانة التي ينالها أخوه، فعكف قبل عام من سفره للقاهرة يحفظ ألفية ابن مالك واليسير من كتاب مجموع المتون.
في عام 1902 عندما بلغ الثالثة عشر من عمره، كان موعد طه المنتظر مع السفر للقاهرة والتعلم في الأزهر، وقرر أن يستقبل سنوات الدراسة بالجد والاجتهاد، يلتهم الدروس ويملك قلبه شغفا كبيرا للمعرفة، يأكل من الطعام القليل، كالخبز الذي يعج بالحصى والقش ويغمسه في العسل الأسود أو الجبن، أو الفول الغارق في السمن.
“فلنبتهل إلى الله في أن يبرئنا من علة الكلام الكثير ، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا ، في العمل الذي يزيل الآلام ، ويمحو الكوارث ، ويجلي الغمرات”
الجامعة الأهلية
درس طه حسين في ساحات الأزهر ومرّت أيامه بشقائها وصعوبتها وعنائه مع اختلاف طبيعة الحياة من قريته إلى العاصمة، وكذلك محاولاته المستمرة للتعود وحفظ الطريق وتحصيل المعرفة، ولكنه منذ عرّف درس الأدب وهو يفكر فيما أتى به إلى القاهرة، فمن المفترض أن يكون أزهريا يستند إلى أحد أعمدة الجامع ويتحلق حوله طالبو العلم، ولكنه وجد نفسه يهوى نظم الشعر وكتابة نصوص النثر.
بعد سنوات كمن دراسته بالأزهرية، كان يشعر طه حسين وكأنها دهورا، كانت الجامعة الأهلية (جامعة القاهرة حاليا) قد شُيدت في عام 1908 وتستعد لاستقبال الراغبين، ودون تردد انتسب طه إلى الجامعة وقرر دراسة الأدب، ليكون من أوائل الملتحقين بها، ويجمع بينها وبين الأزهر.
درس على يد كبار الأساتذة، فعرف عن الحضارة الإسلامية والحضارة المصرية القديمة، واللغات الشرقية، وكذلك التاريخ والجغرافيا، وصنوف الأدب، وهكذا استمر مساره في الجامعة حتى حصل على درجة الدكتوراة في الأدب عام 1914، وكان أول من يحصل على هذه الدرجة العلمية في مصر، وكانت "ذكرى أبي العلاء" هو موضوع رسالته، لعلمه بنبوغه وفلسفته الخاصة وترجمة أعماله ورسائله للفرنسية والألمانية.
طه حسين في فرنسا
لم يقف أمام رغبته الشديدة في التعلم والاستزادة أيُ عائق، فبعد أن نال درجة الدكتوراة من الجامعة، ورغم وقوع المشكلات واعتبار الرسالة إلحاد ورفض الأزهر أن يمنحها العالمية، ومع ما يثار من تقديم طلبات لقطع المعونة عن الجامعة، جاءته البعثة إلى فرنسا للدراسة بتمعن في الأدب.
ذهب إلى مونبلييه في جنوب فرنسا، يدرس التاريخ والآداب وعلم النفس، ولكنه يعود للقاهرة بعد عام واحد، ويواجه مأساة توقف إنفاق الجامعة على منحته الدراسية بسبب رسالته، ولكن وقتها يتدخل السلطان حسين كامل، حاكم مصر، ويوقف القرار بحرمانه من السفر واستكمال المنحة.
يواجه طه حسين في باريس عالما مختلفا، مرحبا بالثقافة والفكر ومشجعل على الحرية، درس العلوم الإنسانية باختلافاتها من علم الاجتماع وعلم النفس، بالإضافة إلى التاريخ اليوناني والتاريخ الحديث، فاستطاع أن يحصل على دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، كما نال درجة الدكتوراة الثانية عن رسالته حول "الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون".
ما زالت فرنسا إلى اليوم تحتفي بالدكتور طه حسين باعتباره منبرا ثقافيا وأحد أهم الأعلام الأدبية العربية، التي استطاعت أن تصل الثقافة الفرنسية بالعربية، وتأثر به أدباء فرنسيون وذكروه بأعمالهم، مثل: ريموند فرانسيس، وبرونو رونفارد، ومت ترجمة 11 عملا أدبيا له بالفرنسية، وتنتشر مقولة عن أهميته الأدبية "إبعاد طه حسين من الأدب المعاصر، مثل التنزه في شوارع باريس دون زيارة متحف اللوفر وكنسية نوتردام".
كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: «بدونك أشعر أني أعمى حقاً. أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي»
سوزان بريسو
"بدونك أشعر أنني أعمى حقا، أما وأنني معك فانا أتوصل إلى الشعور بكل شيء" هكذا يشعر طه حسين في جوار سوزان بريسو الحبيبة التي صارت زوجة ورفيقة عمر وأكبر داعم له، فالبداية كانت لقاءا عفويا في الجامعة بمونبلييه، بعد أن نشر إعلانا يطلب قارئا لكتبه، وزفي 15 مايو 1915 التقته وتحدثا قليلا عن الأدب والحركة الثقافية، ثم صارت صديقته التي تقرأ له فيرى بصوتها ويعذب له.
بادر طه بالتصريح عن حبه لها، بينما عاندت سوزان قليلا وأخبرته أنه لا تملك نفس الشعور، ولكنها كانت تكابر وتحاول أن تبدو متعقلة لاختلاف احوالهما، فهو شاب مصري مسلم فاقد للبصر، تحبه ولكن حياتها مختلفة فهي فرنسية مسيحية لن يقبل والداها، ولكن لم تكتم مشاعرها طويلا، وأعلنت لأسرها رغبتها في أن ترافق طه حسين زوجا وحبيبا لآخر العمر.
انتقلت معه إلى مصر وشاركته كل مراحل حياته، رغم معارضة أسرتها، ولكنها رأت معه للحياة مذاقا آخر "اخترت حياة رائعة، وليس هناك ما يدعو إلى الخجل"، فكانت سوزان محبة مخلصة وعطوفة، تزوجا عام 1917 وأنجبا أمينة ومؤنس، بسببها تعلم الفرنسية واللاتينية واليونانية، وظلت قارئته وصديقته وشريكة كل مواقف حياته الصعبة حتى رحيله.
سجلت سوزان بريسو مواقف حياتها مع طه حسين بعد وفاته في كتاب "معك"، الذي أصدرته باللغة الفرنسية ووتمت ترجمته إلى العربية عام 1979.
كتبت سوزان بعد وفاة زوجها تقول: «ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد ان أرى من جديد ابتسامتك الرائعة..»”
طه حسين.. بصيرة حاضر ورفات حائرة
أزمة الشعر الجاهلي
احيانا، يبدو لصاحب العلم أن بيئته غير مستعدة بعد لاستيعاب ما يقدمه، ففي عام 1926 حين أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" فند فيه قصائد الشعر الجاهلي وقائليها من الشعراء الذين صدحت أسماءهم في الأدب العربي على مدى قرون، واستخدم آليات البحث العلمي والدراسة المتأنية البعيدة عن التحيز القومي والعواطف.
وجد طه حسين أن أغلب ما وصلنا من الشعر والأدب الجاهلي لا يعد من الجاهلية في شئ، وإنما هو منحول بعد ظهور الإسلام، وأنه أدب إسلامي حتى في لغته، مستنكرا أن يكون شعر إمرؤ القيس والأعشى قد كُتب قبل ظهور القرآن، بسبب لغته وفنياته التي لن تتحلى بهذه الجماليات قبل أن يقرأ العرب القرآن ولغته.
تحت راية القرآن
ما حاول أن يثبته طه حسين في كتابه، واجه رد فعل غاضب ورافض للكتاب، وقاد عدد من رجال الأزهرن من بينهم: صادق الرافعي، ومحمد لطفي جمعة، ومحمد الخضر حسين، ومحمد أحمد الغمراوي، ومحمد فريد وجدي هجوما واسعا على الأديب، وتقدم أحد طلاب الأزهر بدعوى يتهم فيها المفكر بالطعن في القرآن.
وبعد سجالات قانونية، تمتتبرئة طه حسين من هذه التهم، ولكن استمرت محاولات التضييق عليه، من سحب الكتاب من الأسواق، والدفع بعزله من منصبه في الجامعة، ثم عاد المفكر إى إصدار المتاب مرة أخرى، دون مآخذ المهاجمين، ولكن باسم جديد "في الأدب الجاهلي".
“القوانين حين تشتد في مصادرة حرية الرأي لا تحمي الفضيلة، وإنما تحمي الرذيلة، وتخلي بينها وبين النفوس”
أهم المحطات في حياة طه حسين
كان طه حسين منارة علمية وأدبية، استطاع أن يجدد في اللغة ويثير التساؤلات حول مآلها واستخداماتها، وأن يبدع في الأدب ويقدم أشكالا مختلفة للرواية، كما أحدث ثورة فكرية بآرائه ونقده ودراساته، ويمكن المرور على أهم محطات حياته العملية والمناصب التي تولاها، بداية من:
- أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة الأهلية عام 1919.
- أستاذ للأدب العربي بوزارة المعارف عام 1925.
- اتجه للصحافة، وعمل على رئاسة تحرير جريدة "كوكب الشرق"، ثم جريدة "الوادي" عام 1934.
- عميد لكلية الآداب بالجامعة عام 1936.
- تم تعيينه مديرا لجامعة الإسكندرية ومستشارا فنيا لوزارة المعارف عام 1942، حتى أحيل للتقاعد عام 1944.
- ومنذ 1950 وحتى 1952، تم تعيين طه حسين وزيرا للمعارف.
- عمل في إحدى الفنرات رئيسا لمجمع اللغة العربية وعضوا في المجلس العالي للفنون والآداب، كما شغل منصب رئيس تحرير جريدة الجمهورية.
"وهكذا جمعنا الزمان والمكان والشوق
أما الزمان والمكان فلا ثبات لهما، وأما الشوق فلا يورث إلا الحزن”
أهم أعمال طه حسين
قدم طه حسين أعمالا أدبية تجمع بين الدراسات الفكرية لأعمال أدباء راحلين، أو روايات سيرة ذاتية أو أفكار حول الإصلاح الثقافي والمجتمعي والتعليم أيضا، ونشر تحليلات للأدب العربي وسبل التطوير ومناطق الخلل، ومن بين أهم أعماله:
- صوت باريس- 1924
- قادة الفكر- 1925
- حديث الأربعاء- 1925
- الأيام- 1927
- دعاء الكروان- 1934
- من حديث الشعر والنثر - 1936
- مع المتنبي- 1937
- شجرة البؤس- 1943
- فصول في الأدب والنقد- 1945
- مرآة الضمير الحديث- 1949
- نقد وإصلاح- 1956
- من أدب التمثيل الغربي- 1959
- مرآة الإسلام- 1959
"أنما هو الحب هو الحب الذي يطمع في كل شئ ويرضى بأقل شئ، بل يرضى بلا شئ، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتاً واحداً يحويه مع من يحب ويهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بالقلب”
ماذا قدم طه حسين للتعليم؟
كانت قضية التعليم الأساسي أو الأولي شغل عميد الأدب العربي الشاغل، يريد أن يحظى أبناء الأجيال القادمة بفرصة التعليم المجاني بجودة عالية، وأن يخرج للمجتمع أشخاص صالحون يمتلكون القدرة على الإفادة والإسهام في اء المجتمع، فوضع خطة وأفكار من شانها أن تصلح حال التعليم، ويبدو غريبا مدى صلاح هذه الأفكار للتطوير حتى الآن.
التعليم الجيد يبدأ من معلم واعٍ
ومن أهم النقاط التي ركز عليها طه حسين لأجل إصلاح التعليم:
- ضمان مجانية التعليم بشكل تام في مراحله الأولى.
- تعميم تجربة التعليم الأولي (المرحلة الابتدائية) باعتباره سبيل الدولة الديمقراطية نحو التطور، وأن يكون إجباريا على الجميع.
- اعتبر الاهتمام بالتعليم الأولي الوسيلة للوحدة الوطنية، ومنح الفرد الفرصة للنجاة والعيش بكرامة، وتمكين الدولة من البقاء والاستمرار.
- التعليم الجيد يبدأ من معلم واعي، يجب أن توفره له الدولة أجر كريم يغنيه ويلائم طبيعة عمله ومكانته.
- إدخال المواد الثقافية والمعرفية إلى جانب المواد المهنية في مدارس التعليم الفني.
- مراعاة الكثافة الطلابية في المدارس، وإيجاد بدائل لها، وأن تكون وجهة الإنفاق الحكومي الأولى هي التعليم.
- قبل منصب وزير المعارف، بعد ان وعدته الحومة بتنفيذ مجانية التعليم لجميع المراحل حتى الثانوية العامة.
- التعاقد مع أساتذة من إنجلترا وفرنسا لتعليم اللغات الفرنسية والإنجليزية للطلاب.
- إنشاء هيئة تابعة لوزارة المعارف هدفها محو الأمية بين الرجال والنساء في ربوع مصر.
- جعل التعليم إجباريا للأطفال من سن 6 إلى 12 سنة.
السلطات المصرية تحسم الجدل حول هدم قبر طه حسين
كيف تحدى طه حسين إعاقته؟
قد يغفل كثيرون كم كان مشوار طه حسين صعبا، كم عاش أياما وليال وحيدا لا يجد مَنْ يؤنسه ويُلهيه عن ألمه بفقدان البصر، الذي قيّد حركته وحرمه الكثير، ولكنه قاومه في هدوء وبخطوات وئيدة واثقة نحو هدفه، يستقي العلم والمعرفة ويقدر الكلمة ويغرق في بحرها، يستند على الآخرين وفي جوفه حزن عميق لم يتبدد.
"أحس أن لغيره من الناس عليه فضلا، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر لما لا ينهض له، وأحسن أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يُحفظه،- ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى"
عميد الأدب العربي لا يملك حرية الاستكشاف
كان عميد الأدب شديد الحساسية تجاه إعاقته، فبعد أن شعر بأنه لا يملك حرية الاستكشاف وحتى لا يقوم بأي فعل يسبب له الإحراج، فضّل الإنزواء على نفسه وحرمها كثير من المتع والتجارب، فلم يكن يأكل عدة صنوف من الطعام التي تحتاج إلى الملاعق التي لا يُحسن استخدامها، وفي سفره كان يُصر أن يأتيه الطعام في غرفته حتى لا يشعر بالإحراج من تناوله أمام الغرباء.
"أتقبله هذه الجامعة بين طلابها حين يتم إنشاؤها، أم ترده إلى الأزهر ردا غير جميل لأنه مكفوف، وليس غير الأزهر سبيلا إلى العلم للمكفوفين؟"
ليبدو ذلك وكأنه أمرا متعارفا عليه، فكيف يمكن لجامعة أو معهد تعليمي حينها- في أوائل القرن العشرين- أن يمهد علومه ويقدمها بالطرق التي تناسب لأصحاب الإعاقات المختلفة.
عميد الأدب العربي وطريقة برايل
لم يكن متاحا لعميد الأدب أن يتعلم من خلال طريقة برايل أو يستخدم جهاز لتسجيل ما يسمع ثم يعيده مرة ثانية عندما يريد، لم يمتلك ما ننعم به اليوم، وهو ما جعل مسيرته تشهد كثير من التحديات، ويتركنا في دهشة تأمل قدرته على تخطيها والتعامل معها حتى أصبح أديبا وعميدا ومجددا للفكر والثقافة.
ندبات في نفس عميد الأدب
صادف طه حسين كثير من المواقف التي تترك في النفس جروحا غائرة، بداية من طفولته المُقيّدة وحتى "أقبل يا أعمى" التي اخترقت أذنيه عند دخوله إلى امتحان القبول بالأزهر، وعندما رفضت الجامعة طلب ابتعاثه أكثر من مرة بسبب إعاقته وعدم إتقانه للغة الفرنسية، واضطراره إلى نشر طلب عن حاجته إلى مرافق يقرأ له باللغة الفرنسية خلال بعثته في فرنسا، حتى منحه الله "سوزان".
"يسقط العميد الأعمى.. مهدد الإسلام"
ولم ينسَ هتاف المحتجين "يسقط العميد الأعمى"، ومحاولتهم اقتحام مكتبه داخل الجامعة عام 1939، اعتراضا على قراراته الدراسية وانفتاحه الذي "يهدد الإسلام"- كما كانوا يزعمون- وتعرض حياته للخطر.
مواقف لا يمكن أن تمر كراما، فتذكر زوجته في كتابها "معك"، كيف كانت تمر عليه أياما لا يتحدث فيها إلى أحد ولا يتحمل اقتراب أي شخص منه حتى أبنائه، ويدخل في نوبات من الاكتئاب والعزلة لحساسيته العميقة تجاه إعاقته.
كان يمكن لطه حسين أن يختار طريقا سهلا، شيخا معمما في الأزهر، لكن شغفه تجاه المعرفة لم يوقفه، في ظل إمكانيات محدودة غير متطورة ولا تراعي أصحاب الاحتياجات الخاصة، لكنه أصرّ غير عابئ، فمنحه الله زوجته التي كانت تستوعبه وتقرأ له وتعينه، ومرافقون آخرون يساعدونه، وقلب صلب قادر على التحدي.
جنازة طه حسين التي تأجلت
في 28 أكتوبر رحل طه حسين، لكننا في عام 1973، بعد أيام قليلة من بدء حرب أكتوبر، فها يعني الانشغال بالحرب أن يُدفن عميد الأدب العربي في صمت؟ كانت الإجابة أنه يستحق جنازة تشهد على عِظم ما قدمه للحياة الثقافية في مصر، فتأجل دفنه ليوم 31 أكتوبر حتى عادت ابنته أمينه من سفرها، واستعدت الدولة بالتنظيم والتنسيق.
حشود تودع العميد إلى مثواه الأخير
وفي جنازة تقدمها عمداء وأساتذة جاعة القاهرة وحضرها رجال الدولة والسفراء العرب والأجانب وأرباب الفكر الأدب والعلم، وما يقرب من 50 ألف شخص يودعون طه حسين، الذي وصل نعشه إلى جامعة القاهرة- معقل إنجازاته- وتم وضعه في مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى لتلقي العزاء، محاطا بالأوسمة والنياشين التي تلقاها.
ومن الجامعة إلى مسجد صلاح الدين في المنيل للصلاة عليه، في مسافة قصيرة بالكيلومترات لكنها استغرقت ساعة كاملة، بعد أن طافت الحرم الجامعي وميدان الشهداء، حتى موطنه الأخير.
مدفن طه حسين
توفي طه حسين في 28 أكتوبر عام 1973، مخلفا تراثا فكريا ما زال مؤثرا إلى الآن، وأعمالا تجمع بين النقد والدراسة المنهجية التحليلة، التي تفتح آفاقا أرحب نحو المعرفة وإعمال العقل، بخلاف إسهاماته اللغوية.
"اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لى ما قدمت، وما أخرت، وما أعلنت، وما أسررت، أنت إلهى..لا إله إلا أنت".
دعاء تلاه عميد الأدب العربي، ودون على شاهد قبره.
دُفن طه حسين في منطقة التونسي بالخليفة، حيث القاهرة القديمة، وهو المدفن الذي واجه في سبتمبر 2022 خطر الهدم والإزالة، بعد أن انتشرت صور لواجهته مرسوما عله علامة إكس ومكتوب كلمة "إزالة"، وقي وقتها أن ذلك في سبيل تطوير المنطقة وإنشاء محور ياسر رزق، ليظهر بعدها بأيام قليلة صورة للمدفن وقد تم مسح كلمة "إزالة"، وتتراجع عائلته عن نقل رفاته.