في ذكراه.. "طه حسين" خاض معارك العقل على كل الجبهات
عبر قرن كامل بقي عميد الأدب العربي الراحل تجسيدا لفكرة المثقف العصامي وعلامة على "المعجزة الفردية".
لا أحد يجادل في أن طه حسين هو المثقف العربي الأكثر تأثيراً في القرن الـ20، فالرجل الذي توفي في مثل هذا اليوم من عام 1973 ظل رمزاً للعقلانية والاستنارة في ثقافتنا العربية، كما ظل هدفاً لكل خصوم العقل وقاوم بإنتاجه القراءات التي أساءت إلى التراث العربي والإسلامي وعملت على تأويله وفقاً لمشروعاتها السياسية.
فقد كان من أوائل مفكرينا الذين ناهضوا تيار الإسلام السياسي لأن كتاباته في الإسلاميات لم تكن إلا سبيلاً لمواجهة عملية "الاستبداد بالتراث" وحصر قراءته في تيار واحد مناهض لأي مسعى لقراءة مجددة.
وعبر قرن كامل بقي عميد الأدب العربي الراحل تجسيداً لفكرة المثقف العصامي وعلامة على "المعجزة الفردية" التي تتجاوز واقعها الاجتماعي المأزوم وتخلق بجهدها واقعاً جديداً تستطيع أن تغير فيه لصالح المجموع وليس لصالح الفرد، فانحاز للمستضعفين والمعذبين في الأرض داعياً إلى العدالة الاجتماعية واعتبرها المشروع الجدير بكل اهتمام.
ورغم اشتغاله بالسياسة وإصراره على التفاعل مع المجال العام حافظ على المسافة التي أتاحت له دائماً أن يمتلك صوته الجذري في نقد السلطة وتصويب مساراتها ومقاومة استبدادها وأشكال هيمنتها، فلم تكن معاركه السياسية أقل جذرية من معاركه الفكرية وأهّل نفسه دائماً لدفع الثمن.
وفي المقابل آمن بأن التغيير العقلي يحتاج لعمل مؤسسي أكبر من أن يديره أي فرد، وفي كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر 1938" تبشير بمهمة الدولة والمجتمع المدني بمعناه الذي نعرفه اليوم.
وعلى أساس هذه القاعدة يمكن أن نفهم انخراطه الحزبي لتطبيق دعوته في إتاحة مجانية التعليم باعتباره كالماء والهواء، ولم يتمكن من تنفيذ ذلك إلا خلال توليه وزارة المعارف في حكومة عام 1950 التي كانت آخر حكومة شكلها حزب الوفد الليبرالي قبل ثورة الضباط الأحرار عام 1952.
ولما قامت الثورة بحل الأحزاب السياسية كتب: "مصر لا تحتاج إلى شيء بقدر ما تحتاج إلى أن تحرر عقول أبنائها، والعقل الحر هو الذي لا يقبل أن يفرض السلطان السياسي عليه رأياً من الآراء ومذهباً من المذاهب، والعقل الحر هو الذي لا يقبل ديكتاتورية مهما يكن غرضها ومهما كان أسلوبها في الحكم، لن نرضى من الثورة إلا بأن يتسع سلطان العقل حتى يتلقى المعرفة من أقطار الأرض جميعاً وبأن يعظم سلطان العقل حتى لا يخشى رقيباً حين يعلن ما يرى خطأً كان أم صواباً".
وحين مات لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقاً، ومع ذلك، ففي ٢٧ أكتوبر/تشرين الأول 1973، نحو الساعة الـ3 بعد الظهر، شعر بالضيق، كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث، وعندما وصل الطبيب كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية.
وفِي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التي تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويورك في 10 ديسمبر/كانون الأول لتسلم الجائزة، وكان الطبيب هو الذي قرأها له، مهنئاً إياه بحرارة، غير أنه لم يُجب إلا بإشارة من يده كأنه يقول: "وما فائدة ذلك".
هذا ما كتبته زوجته الفرنسية سوزان طه حسين في كتابها العذب "معك" الذي ترجمه السوري بدر الدين عرودكي، وهو كتاب فريد من نوعه لمواءمته بين القدرة على رصد تجربة الحب وسعيه للنظر لها كمشروع مكمل لاستنارة الزوج وفرادة مشروعه القائم كذلك على النظر إلى "الشاطئ الآخر" فلم تكن سوزان إلا تمثيلاً لهذا الإيمان بـ"الآخر" وإمكانية الاستفادة مما لديه دون أدنى شعور بالدونية أو النقص.
فالفكرة هي الاستكمال وليست الصراع أو الخصومة، أو كما عبر هو في مستقبل الثقافة في مصر "الشعب ليس معرضاً للخطر الذي يأتيه من الخارج حيث يغير عليه الأجنبي الطامع فحسب، لكنه معرض للخطر الذي يأتيه من الداخل حين يفتك به الجهل بأخلاقه ومرافقه ويجعله عبداً للأجنبي المتفوق عليه في العلم"، ولم يكن العميد في سعيه لحوار الشرق والغرب إلا ساعياً لتحقيق وحدة العقل الإنساني.
ويعرف الجميع أن طه حسين خاصم أعداء العقل منذ انطلاقته الأولى ويكشف كتاب "الأيام" جوانب من تلك المعارك التي خاضها "الفتى" بوصفه لنفسه في القناع الذي استعمله لكتابة سيرته الذاتية التي كانت أول سيرة يعرفها الأدب العربي.
وظلت أزمة كتابه "في الشعر الجاهلي" عام 1926 هي الأشهر في تاريخ الفكر العربي ولعلها المعركة التي استعملها خصومه طوال الوقت لإدانته وتجريم حقه في تبني "المسار المغاير" الذي كان عنواناً لرحلته سعياً إلى تحرير العلم والدين من عبث السياسة وفتنتها، ولم يكن اهتمامه للعناية بالتاريخ والنظر فيه بعد أزمة "في الشعر الجاهلي" إلا انعطافة مهمة وضرورية وفعالة ساعدته على التحايل على الأصوات التي قاومت دعوته الحادة للتجديد.
ومن المدهش حقاً أن رجلا بقيمته ظل مؤثماً من تيارات يصعب أن تجتمع على تأثيم شخص واحد، فقد واجه معارك على كل الجبهات وانتقده الأزهريون وزعيم الوفد سعد زغلول وحاربه النظام الملكي ثم رجال يوليو وكذلك الماركسيون لم يسلم من نقدهم العنيف، وعلى ما في هذا التأثيم من اختلافات وتناقضات بقي رمزاً للعقل.
ومن اللافت في مسيرته كذلك وعيه الحاد بمفهوم التاريخ ورهانه الذكي على إمكانية استعماله سواء في الكتابة الروائية التي كانت تتلمس معه فنياتها الأولى في "على هامش السيرة" وفي "الوعي الحق" أو في طريقته الفذة في كتابة تواريخ الإعلام كما نرى في كتابه عن المتنبي أو كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" بالإضافة إلى جهده في تناول موضوع "الفتنة الكبرى" وتفكيك الروايات السائدة عن هذا الحدث الفارق.
ولعل هذا الوعي بالتاريخ هو أحد مفاتيح فهم العميد التي دفعت بالناقد السوري عبدالرزاق عيد إلى وصفه بـ"مكتشف قارة التاريخ في الفكر العربي الحديث".