من أبوظبي إلى بودابست.. الإمارات ترسخ حضورها الثقافي في قلب أوروبا

على امتداد ربع قرن من العلاقات الثنائية «المتميزة» بين دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية المجر، تشكّل الثقافة والمعرفة أحد أعمدة الشراكة المتجددة بين البلدين، حيث شهدت مسارات تعاون متسعة طالت مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والعلمية،
وتُوّجت هذه العلاقات بزيارات رسمية رفيعة المستوى ومبادرات استراتيجية، كانت آخرها الزيارة الرسمية التي يجريها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، إلى العاصمة بودابست، وسط ترحيب مجري واسع رافق طائرته لدى دخولها المجال الجوي بطائرات عسكرية.
وتأتي هذه الزيارة استكمالًا للقاءات متبادلة، كان أبرزها استقبال الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في كانون الثاني/يناير الماضي لرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في قصر الشاطئ بأبوظبي، حيث جرت مناقشة سبل تنمية التعاون الثنائي، خاصة في مجالات الاقتصاد، التجارة، الطاقة المتجددة، التكنولوجيا، البنية التحتية، والتنمية المستدامة.
في هذا السياق الحيوي من التنسيق السياسي والاقتصادي، تتقدم الإمارات بخطى واثقة لتعزيز حضورها الثقافي والمعرفي على الساحة الأوروبية، لا كضيف مؤقت، بل كشريك استراتيجي يمتلك مشروعًا طويل الأمد في بناء الجسور الفكرية، وصياغة مفاهيم جديدة للدبلوماسية الناعمة، انطلاقًا من رؤية تؤمن بأن الثقافة والعلم هما محركان حقيقيان لمستقبل العلاقات الدولية..
ومن خلال سلسلة اتفاقيات ومبادرات نوعية مع جمهورية المجر، نجحت الإمارات في بناء شبكة تعاون متعددة الأبعاد، تشمل التعليم العالي، والبحث العلمي، والتدريب الدبلوماسي، والحوار الثقافي، بما يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة التحولات العالمية، ورؤية استراتيجية تستثمر في الإنسان والمعرفة، باعتبارهما جوهر أي مشروع تنموي مستقبلي.
تُجسّد هذه الشراكات ملامح سياسة ثقافية إماراتية تتسم بالمرونة والانفتاح والتخطيط طويل الأمد، إذ لم تعد العلاقات الثقافية مجرد واجهة رمزية، بل باتت رافعة قوية للدبلوماسية الناعمة، وأداة لإعادة تشكيل موازين الفهم والتأثير في الساحة الدولية.
100 منحة دراسية.. بوابة جديدة للطلبة الإماراتيين في أوروبا
في خطوة تهدف إلى توسيع دائرة التبادل الأكاديمي، تقدّمت الحكومة المجرية بمشروع لتخصيص 100 منحة دراسية للطلبة الإماراتيين الراغبين في استكمال دراساتهم الجامعية والعليا في مؤسسات التعليم العالي المجرية. وقد باشرت الجهات المختصة في الإمارات على مشروع مذكرة تفاهم بهذا الشأن، في تعزيز للتعاون التعليمي بين البلدين.
وتتوافق هذه المبادرة مع سياسة وزارة التربية والتعليم الإماراتية الرامية إلى فتح آفاق الابتعاث الخارجي أمام الطلبة المتفوقين، لتمكينهم من تحصيل تعليم نوعي في تخصصات دقيقة، بما يسهم في بناء رأس مال بشري متمكن وقادر على تلبية احتياجات الدولة المستقبلية.
أكاديمية الإمارات الدبلوماسية والمعهد المجري للدراسات الدولية.. صياغة دبلوماسية عبر المعرفة
في عام 2018، وُقّعت مذكرة تفاهم بين أكاديمية الإمارات الدبلوماسية والمعهد المجري للشؤون الدولية (HIIA)، بهدف تطوير برامج بحثية وتدريبية مشتركة، وتنظيم فعاليات فكرية تعزز الفهم المتبادل في الحقل الدبلوماسي. وقد شهد توقيع الاتفاق في هـا العام كل من نيكولاي ملادينوف، المدير العام للأكاديمية، والدكتور غلادن بابن، رئيس المعهد المجري، بحضور مسؤولين من الطرفين.
أكد ملادينوف أن التعاون مع المعهد المجري يمهّد لتصميم مبادرات دبلوماسية قادرة على فهم التعقيدات المتزايدة في العلاقات الدولية، من خلال تأهيل نخبة من الدبلوماسيين الإماراتيين بروح استراتيجية ومعرفة متعمقة.
من جهته، ألقى بابن محاضرة بعنوان "النموذج المجري في الدبلوماسية"، تطرّق فيها إلى أدوات التعاون الدولي، والدبلوماسية الاقتصادية، ودورها في دعم أهداف التنمية المستدامة وتعزيز النمو العالمي.
مركز الإمارات للسياسات ومركز أنتال جوزيف.. لقاء العقول في بودابست
في نيسان/أبريل 2019، وضمن رؤية أوسع لبناء شبكة معرفية دولية، وقّع مركز الإمارات للسياسات مذكرة شراكة مع مركز أنتال جوزيف للمعرفة في العاصمة المجرية، بحضور مدير المركز المجري بيتر أنتال و عبد الحميد عبد الفتاح كاظم الملا سفير دولة الإمارات السابق لدى بودابست.
وشملت الاتفاقية مجالات تنظيم المنتديات الفكرية، وإنتاج الدراسات التحليلية في قضايا استراتيجية، وتبادل المناهج والخبرات المعرفية. وقد تزامن التوقيع مع مشاركة الدكتورة ابتسام الكتبي، رئيسة رئيسة مركز الإمارات للسياسات ، في المؤتمر السنوي (think.BDPST)، الذي يُعد من أبرز المنتديات الفكرية في أوروبا الوسطى.
وقالت الكتبي إن هذه الاتفاقية تمثل امتدادًا لسياسة المركز في بناء تحالفات بحثية مع مؤسسات فكر مؤثرة عالميًا، بما يسهم في تعزيز حضور الإمارات على خارطة النقاشات الدولية.
المجلس الإماراتي في بيت العالم نويمان.. منارة جديدة للحوار
في أيّار/مايو 2024، دشّنت سفارة دولة الإمارات في بودابست "المجلس الإماراتي"، ليكون منصة للحوار الثقافي والعلمي بين شخصيات من البلدين، وذلك في مقر إقامة السفير، الذي كان في السابق منزلًا للعالم الشهير جون نويمان، في رمزية تجمع بين الإرث العلمي والانفتاح الإنساني.
شهد المجلس في نسخته الأولى جلسة نقاشية حول الذكاء الاصطناعي، أدارتها السفيرة كاتالين بوجياي، رئيسة جمعية الأمم المتحدة في المجر، بحضور نخبة من المسؤولين والأكاديميين والطلاب وممثلي الجمعيات الشبابية. وقد استعرض الحضور تجربة الإمارات الرقمية، والتقدم الذي أحرزته في تقنيات الذكاء الاصطناعي والخدمات الذكية.
وتخلل اللقاء إطلاق مركبة "نويمان H2" التي تعمل بالطاقة الهيدروجينية والطاقة الشمسية، وجرى قيادتها للمرة الأولى على الطرق العامة من مقر المجلس. وتحمل المركبة عبارة قالها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي : "الابتكار رحلة مستمرة لا تنحصر في وقت"، بما يعكس عمق الارتباط بين الرؤية الإماراتية للابتكار والمستقبل.
تعاون متجدد.. وفضاءات مفتوحة للفكر والتقارب
وكان سعود حمد الشامسي السفير الإماراتي لدى المجر، قد أعلن أن المجلس سيواصل تنظيم فعاليات دورية تجمع شخصيات فكرية وأكاديمية إماراتية ومجرية، بهدف توسيع نطاق التفاعل الثقافي، وتعزيز جسور الفهم المتبادل، وتطوير بيئة منفتحة للنقاش والإبداع.
وتمثّل هذه المبادرات المتعددة، من مذكرات التفاهم إلى اللقاءات المفتوحة، سياسة إماراتية واضحة المعالم تقوم على أن الثقافة والعلم ليسا مجرد أدوات للعرض، بل قوة فاعلة في تشكيل السياسة الخارجية، وترسيخ حضور الدولة كفاعل معرفي ومؤثر في محيطه الإقليمي والدولي.