خلال أسبوع واحد فقط، هو المنصرم، استضافت أبوظبي ثلاث فعاليات دولية على قدر كبير من المكانة والأهمية ضمت أكثر من 500 مشارك.
لا شك أن عدد ونوعية الفعاليات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية التي تستضيفها دولة ما تعد مؤشرا على ما تحظى به هذه الدولة من موقع على خريطة الأهمية الفكرية والمعرفية، ومن وزن وثقل على الساحة الدولية، وبمعياري الكم والكيف لا يكاد يمر أسبوع واحد دون أن تستضيف إحدى المدن الإماراتية فعالية دولية على قدر كبير من الأهمية في شتى المجالات، وخلال أسبوع واحد فقط هو المنصرم استضافت أبوظبي ثلاث فعاليات دولية على قدر كبير من المكانة والأهمية ضمت أكثر من 500 مشارك من أبرز الأكاديميين والخبراء والباحثين والوزراء والدبلوماسيين والمسؤولين، الأول بالترتيب الزمني للانعقاد كان "ملتقى أبوظبي الاستراتيجي"، والثاني كان مشروع "حوارات المواطنة الشاملة"، والثالث كان "مؤتمر أبوظبي للدبلوماسية".
بخطى ثابتة تعزز أبوظبي مكانتها وموقعها كعاصمة للفكر والمواطنة والدبلوماسية، فتراكم الخبرات أساس النجاح، وخير العمل أدومه وإن قل، فما بالنا إن ارتبط داوم العمل بكثرته وجودته وتفرده
ولكل مؤتمر أو ملتقى من هذه الفعليات الثلاثة حكاية ملهمة وقصة نجاح يجب التوقف عندها، سواء تعلق الأمر بالجهات المنظمة وأهدافها ورسالتها، أو في طبيعة الموضوعات التي ناقشها أو النتائج والتوصيات التي انتهت إليها، كما أن لانعقادها جميعا في الوقت نفسه وتحت سماء المدينة نفسها دلالة لا تخطئها عين على مدى تنامي نفوذ دولة الإمارات في ساحات الفكر والبحث والمعرفة، ومدى ثقل حضورها كمركز ثقل فكري وسياسي ودبلوماسي.
"ملتقى أبوظبي الاستراتيجي" كان من تنظيم مركز الإمارات للسياسات بأبوظبي، الذي حقق قبل 4 أعوام إنجازا هو الأول من نوعه إماراتيا وعربيا، حين حل في المرتبة التاسعة عالميا في قائمة أهم مراكز الأبحاث الجديدة الأكثر تأثيرا في العالم، وفقا للتقرير الخاص بترتيب مراكز الفكر في العالم لعام 2014، الصادر عن جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أكثر التقارير أهمية ومصداقية على مستوى العالم، فيما يتعلق بتحديد أهمية مراكز الفكر والدراسات، ويعد المرجع الذهبي للحكومات والجهات المانحة والمنظمات الدولية في تصنيفها وترتيبها لمراكز البحوث، ويصدر هذا التقرير منذ عام 2007 بصفة سنوية عن برنامج مراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني, في جامعة بنسلفانيا، ولا شك أن حلول المركز في هذا الترتيب المتقدم بعد عام واحد فقط من تأسيسه إنما يعكس الدور المتميز الذي يضطلع به على الساحتين المحلية والإقليمية، على الرغم من حداثة نشأته وسنوات عمره القليلة، كما يعكس إصرار القائمين عليه والعاملين به والمتعاونين معه على تقديم الأفضل في مجال أبحاث ودراسات السياسات العامة، بما يخدم عملية صنع القرار في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبما يثري العمل البحثي والفكري في المنطقة العربية، هذا الإصرار انعكس بشكل واضح على جودة منتجات المركز من كتب وأوراق تحليل سياسات وورشات عمل وملتقيات سياسية، أبرزها بالتأكيد "ملتقى أبوظبي الاستراتيجي"، الذي حافظ على استمراريته منذ إطلاق نسخته الأولى في عام 2014، وحجز منذ ذلك الوقت مكانة متميزة في أجندة الفعاليات الدولية المعنية بتناول التحولات الاستراتيجية في عالمنا المعاصر، هذه المكانة التي حجزها المتلقي والتي يعززها عاما بعد عام لم تكن من فراغ أو نظير دعاية دأبت عليها جهات ومؤسسات في دول مجاورة، بل كانت نتيجة رؤية جادة ومختلفة وعمل دؤوب أسفرا عن مضمون حقيقي وطرح مختلف وتنقيب عن قضايا حيوية لم تقتل بحثا وصولا إلى طرح حلول غير تقليدية للقضايا محل النقاش، تساعد على "سبر أغوار التحولات الجيواستراتيجية والجيواقتصادية الدولية والإقليمية"، مرورا بمتحدثين خبراء حقيقيين في مجالات بحثهم وليسوا من عينة الخبراء المدعين المتحدثين على كل الموائد البحثية.
فعلى سبيل المثال ناقش الملتقى في دورته الخامسة التي اختتمت أعمالها منذ أيام قضايا استراتيجية ذات أهمية بالغة انطلقت جميعها من مفهوم "القوة"، في محاولة جدية لفهمه وكيفية توظيفه في العلاقات الدولية، وقراءة خريطة تحولات القوة وتوزيعها في النظام الدولي المتغير، تلك الخريطة التي تغيرت كلية نتيجة تغير مفهوم القوة ذاتها، بدخول عناصر جديدة للقوة التي لم تعتد تقتصر بالضرورة على القوة العسكرية الخشنة وإنما أيضا على القوة الناعمة، وكذلك القوة الذكية التي تجمع مزيجا من عناصر القوة الخشنة والقوة الناعمة، وكيفية توظيفهما بطريقة ذكية تعزز من مصالح الدولة الوطنية، وهنا كان ملفتا عنوان الكلمة الافتتاحية للملتقى "غرور القوة وطموحها.. والبحث عنها وبروزها واستثمار كوامنها" والتي حاولت من خلالها الدكتورة ابتسام الكتبي استشراف السياسات المستقبلية المستمدة من القوة واستقراء تغير مفهوم القوة وتوزيعها إقليما ودوليا، وقدمت بشكل جيد قراءة في تجربة الإمارات في بناء القوة الناعمة وتوظيف القوة الذكية كنموذج في بناء القوة.
النموذج الإماراتي في بناء القوة يستند أيضا على منظومة قيمية وأخلاقية ساعدت على بروزه وعلو شأنه، هذه المنظومة أشار إليها الدكتور أنور بن محمد قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية في الكلمة الرئيسية بالجلسة الافتتاحية للملتقى حين قال إن "القيم التي صاغت شعبنا وصاغت علاقاتنا مع العالم هي قيم الشيخ زايد، التي تتمثل بالاعتدال والتسامح والتعاون والتعاطف التفاؤل، وهي القيم التي تجسدت في حيوية دولتنا وتحولها إلى مركز اقتصادي وإعلامي وتكنولوجي في الإقليم"، مؤكدا أن الإمارات تنطلق في مجابهة الاضطرابات والتحديات غير المسبوقة التي تمر بها المنطقة من مبادئ أساسية هي احترام السيادة والتعددية والتعاون ودعم الاستقرار.
الجانب القيمي والأخلاقي في السياسة الإماراتية كان جليا في الفعالية الدولية الثانية التي استضافتها أبوظبي خلال الأسبوع نفسه، والتي تمثلت في المرحلة الأولى من "حوارات المواطنة الشاملة"، وهي المشروع الجديد لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة حول مفهوم وحقوق "المواطنة الشاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، والتي هدفت بالأساس إلى مناقشة كيفية تعزيز المواطنة الشاملة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة في هذه البقعة المضطربة من العالم، والخروج بتصور مؤصل للمواطنة الشاملة مستمد من النصوص الدينية ومراع للسياق الحضاري المعاصر، المتمثل في الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية، كما سعت إلى تقديم تشخيص دقيق للعراقيل والتحديات التي تحول دون تحقيق هذا المفهوم الشامل للمواطنة، والعقبات التي تعترضه في بلدان الشرق الأوسط.
أبوظبي أرسلت رسالة سلام وتسامح ومحبة إلى العالم من خلال هذا المشروع الإنساني الطموح، الذي يسعى للارتقاء بالمفهوم من مستوى "المواطنة التعاقدية" إلى مستوى المؤاخاة الإنسانية الخالصة التي تمارس القيم المشتركة بين الأديان، حيث انتهت الفعالية بإطلاق "إعلان أبوظبي للمواطنة الشاملة" والذي يستند على المواطنة في مفهومها الإيخائي كمفهوم شامل ونموذج جديد لمواطنة حاضنة مختلف الديانات والأطياف، وفقا لتأكيدات أمين عام المنتدى الدكتور محمد مطر الكعبي، الذي أوضح أنه "دون سلام لا توجد حقوق.. وفقدان السلام هو فقدان للحقوق".
الفعالية الأخيرة التي استضافتها أبوظبي خلال الأسبوع المنصرم كانت النسخة الأولى من "مؤتمر أبوظبي للدبلوماسية 2018"، الذي نظمته أكاديمية الإمارات الدبلوماسية، بمشاركة 300 شخصية من الوزراء والسفراء وقادة الدبلوماسية والفكر والشخصيات العالمية البارزة من الأكاديميين والمختصين في الدبلوماسية والعلاقات الدولية، في تأكيد على المكانة الريادية التي وصلت إليها دولة الإمارات في الدبلوماسية والتعاون الدولي، وفقا لتعبير الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، في إشادته بالمؤتمر الذي يهدف بالأساس إلى استكشاف ديناميكيات التحول في دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، وبحث سبل تعزيز التبادل المعرفي والعملي وأفضل الممارسات في مجال الدبلوماسية والعلاقات الدولية، المؤتمر شكل منصة لاستعراض أحدث الأفكار والابتكارات الدبلوماسية الملهمة بما يحقق التعاون والتفاهم البناء بين الدبلوماسيين الإماراتيين ونظرائهم الدوليين بهدف إيجاد الحلول لأهم التحديات الدبلوماسية والقضايا الدولية المعاصرة والتغيرات المتسارعة وأثرها على العمل الدبلوماسي، هذا المؤتمر انتهى أيضا كسابقيه إلى حلول وتوصيات ومبادرات غير تقليدية، من أبرزها إطلاق "منتدى المرأة الدبلوماسية"، كنتيجة لدراسة بحثية موسعة أجرتها الأكاديمية لتسلط الضوء على الموازنة بين الجنسين في الدبلوماسية، وانتهت إلى أن عدد النساء من سفراء دول مجموعة العشرين ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2018 هو فقط 435 من أصل 2607، أي أن نسبة النساء مقارنة بعدد السفراء الكلي هو 16.7% فقط، هذه المبادرة تؤكد التزام أكاديمية الإمارات الدبلوماسية من خلال برامجها وبحوثها ومبادراتها بتمكين المرأة وتعزيز كفاءاتها وإبراز دورها في السلك الدبلوماسي.
المميز في الفعليات الثلاثة هو حرصها على أن تنتهج نهجا مؤسسيا يضمن ديمومتها واستمراريتها، بما يعزز تأثيرها ويرسخ مكانتها على أجندة الفعاليات الدولية، وأعتقد أن هذا أصبح نهجا إماراتيا بامتياز، فلا مكان لفعالية تعقد مرة واحدة ثم يطويها النسيان وتدخل توصياتها سجل المحفوظات، ومن ثم فإننا في العام المقبل سنكون على موعد مع الدورة السادسة لملتقى أبوظبي الاستراتيجي، والمرحلة الثانية لمشروع حوارات المواطنة الشاملة، والنسخة الثانية من "مؤتمر أبوظبي للدبلوماسية 2019"، وبخطى ثابتة تعزز أبوظبي مكانتها وموقعها كعاصمة للفكر والمواطنة والدبلوماسية، فتراكم الخبرات أساس النجاح، وخير العمل أدومه وإن قل، فما بالنا إن ارتبط داوم العمل بكثرته وجودته وتفرده.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة