ما بين خمسة وستة أعوام تستمر الحقبة الطالبانية الثانية، والتي يؤسس لها بعد الخروج الأمريكي.
لستُ ضاربَ ودَع أو منجِّما، لكنها لعبة التاريخ، التي تجيب دائما عن أعقد الأسئلة، التي يحتار العقل الإنساني في تفسيرها.
المنهج التاريخي في التحليل السياسي مذهل، يدهشك دائما، فكثير من نتائجه تصدق عبر دوران عجلة الزمن.. ففترة الخمسة أعوام، التي أشرت إليها تظهر في الفترات الانتقالية الفاصلة بين حقب تاريخية سياسية مرت بها أفغانستان.
والمرحلة الانتقالية تأتي بين زمنين سياسيين، لتمهد لحقبة سياسية جديدة.
والخمسة أو الستة أعوام غالبا، حسب علم الاجتماع السياسي، هي الطاقة التي تنتهي عندها قدرة الشعب الأفغاني على الاقتتال.
وبالرجوع إلى المراحل التاريخية الفاصلة، نجد أن عصر محمد ظاهر شاه، الذي حكم أفغانستان بين 1933 و1973، دخلت البلاد بعدها في اقتتال داخلي استمر حتى اجتياح الروس أفغانستان في ديسمبر 1979.
ولو بدأنا عد المرحلة الانتقالية بين نهاية عهد "محمد ظاهر شاه" ودخول القوات الروسية، سنجدها بين 5 و6 أعوام.
ما الذي حدث في تلك المرحلة الانتقالية؟
دخل الأفغان في اقتتال على الحكم بعد أن تولى محمد داوود خان السلطة إلى أن تم عزله وإعدامه عام 1978، ثم سيطرة حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني و"تاراكي" على حكم البلاد.
بعد ذلك اندلعت ثورة في أفغانستان عام 1979 ووصل "حفظ الله أمين" للحكم بعد مقتل "تاراكي".
ونتيجة كثير من الصراعات والحسابات الدولية، دخل الروس أفغانستان وأسقطوا حكومة "حفظ الله" واختاروا "باباراك كارمال" رئيسا للحكومة، وبدأت الحقبة الروسية، التي استمرت عشرة أعوام من ديسمبر 1979 حتى فبراير 1989.
ثم دخلت أفغانستان بعد العهد الروسي إلى مرحلة انتقالية أكثر سخونة واقتتال بين الأفغان، وهي المرحلة التي تبدأ منذ عام 1990 وتنتهي عام 1996.. مرة أخرى مرحلة انتقالية بـ6 أعوام.
انتهت تلك المرحلة الانتقالية بوصول "طالبان" إلى حكم أفغانستان، ويمكن تسميتها بـ"العهد الطالباني الأول"، الذي استمر منذ 1996 وانتهى بدخول الأمريكان في أكتوبر 2001.
وبدراسة المرحلة الانتقالية الثانية، يمكن أيضا تجميع دلالات سياسية تجيب عن المتوقع بعد الانسحاب الأمريكي.
هنا سنجد أنفسنا أمام كابوس الحرب الأهلية، أي القتال بالسلاح الثقيل بين أمراء الحرب، وذلك حين اختلفت فصائل المقاومة الأفغانية السابقة ضد الروس على تقسيم الغنائم -كانت الغنيمة الكبرى هي كابول العاصمة- إذ خرج الروس وتركوا حليفهم "محمد نجيب الله" في رئاسة الحكومة، ومع الوقت سقط الرجل، وفي عام 1992 بدأت الحرب الأهلية الأفغانية تدق طبولها.
اجتمع قادة الفصائل المتحاربة، ووقعوا فيما بينهم اتفاقا ينص على اختيار "صبغة الله مجددي" رئيسا لشهرين على أن يأتي بعده "برهان الدين رباني" لأربعة أشهر، وأن يتولى "قلب الدين حكمتيار" رئاسة الوزراء، وأحمد شاه مسعود وزارة الدفاع.
وفعلا دخل المتحالفون كابول، لكن ما لبثت الحرب أن دقت طبولها ثانية بعد تمسك "برهان الدين رباني" بالسلطة، وحينها رفض "قلب الدين حكمتيار" دخول كابول، وازدادت خلافاته مع أحمد شاه مسعود.
مع الوقت بدأ "حكمتيار" ضرب كابول بمساعدة حليفه "عبد الرشيد دوستم "، فتم تدمير كابول.
في ظل هذه الحرب الأهلية الطاحنة، وتحديدا في "قندهار"، كانت هناك مجموعة طلاب يدرسون العلوم الدينية، وجميعهم من عرقية البشتون، يلملمون صفوفهم بدعم باكستاني أمريكي.. وكان تأسيس حركة "طالبان".
قويت الحركة وسيطرت على قندهار، ومنها زحفت على كابول واستولت عليها عام 1996، لتنتهي حقبة الحرب الأهلية بعد هروب "حكمتيار" إلى إيران، و"دوستم" إلى أوزبكستان، وأحمد شاه مسعود إلى بانشير، شمال أفغانستان.
هنا تنتهي المرحلة الانتقالية، التي امتدت 6 أعوام أيضا، لتبدأ الحقبة الطلبانية الأولى، التي تقترب كذلك من 5 أعوام حتى دخول الأمريكيين عام 2001.
وبقليل من التحليل والتدقيق للمراحل الانتقالية، التي تلت حقبا سياسية أفغانية، يمكن لنا بناء توقع لما ستكون عليه المرحلة الانتقالية، التي بدأت في 31 أغسطس 2021، وهو تاريخ خروج آخر جندي أمريكي من أفغانستان.
فأولا: ستتساوى تلك المرحلة زمنيا مع المراحل الانتقالية السابقة، أي لن تقل عن خمسة أعوام ولن تزيد على ستة.
ثانيا: فكرة الاقتتال الداخلي قائمة بالفعل، خصوصا أن رماد الحرب الأهلية القديمة اشتعل عبر ولاية "بانشير"، التي يتحصَّن فيها أحمد ابن أحمد شاه مسعود، وهو نفس السيناريو الاقتتالي، الذي نفذه الأب أحمد شاه مسعود عندما سيطرت "طالبان" على الحكم عام 1996، حيث فر إلى "بانشير" وتحصن بها وأعلن قتاله "طالبان" إلى أن تم اغتياله.
ما زال الفاعلون السياسيون المؤثرون في كل المراحل حاضرين، خصوصا الباكستانيين، وأيضا الروس، أعداء الأمس البعيد وأصدقاء اليوم، ومعهم الصينيون الباحثون عن الوجود هناك بالتنمية وليس بالسلاح.
في كل الأحوال، لن يقف أحمد شاه مسعود وحيدا في قتال "طالبان"، كما أن القتال سيتفرع إلى اللاعب الجديد، الذي لم يكن موجودا في السابق، وهو تنظيم "داعش خراسان"، الذي يخوض حربا ضد "طالبان" منذ 2015 ستستمر وتزداد شراستها خلال الشهور القادمة، خصوصا أنها ستحظى بدعم أطراف ربما لا تريد لـ"طالبان" أن تنفرد بحكم أفغانستان، وقد يكون "داعش خراسان" ورقة استنزاف "طالبان" وإجبارها على الرضوخ لشروط المجتمع الدولي، وأولها أن يتم القبول بوجودها دون أن يُسمح لها بالإدارة والحكم.
ربما تكون تلك إذًا الصيغة، التي تسعى إليها أطراف العالم الكبرى: "اعتراف بالوجود وليس سماح بالحكم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة