عقب وفاة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، قدم خلفه نيكيتا خروتشوف تقريرا للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عن "جرائم" الحقبة الستالينية.
وأعطى "خروتشوف" بتقريره هذا إشارة انطلاق لأهم انعطافة للتجربة السوفييتية، نقلتها إلى عهد الانفراج والتعايش السلمي، مع ما تلا ذلك من تحولات عميقة مسّت التجربة وذهبت بها صوب الاقتراب رويدا رويدا من اقتصاد السوق.
ذلك التحول، ورغم أن معظم التيارات الماركسية الراديكالية اعتبرته نكوصا وانحرافا، لامس في عمقه فكرة "التمرحل" القابعة في عمق جينات النظرية الماركسية اللينينية، خصوصا أن الاتحاد السوفييتي في تلك المرحلة لم يتخلَّ مطلقا عن خطته القائمة على دعم الحكومات الاشتراكية، أيا كانت نكْهتها، وفي أي مكان وجدت، كما هو شأن اندفاع السوفييت بلا هوادة نحو التحالف مع البعث السوري وشيوعيي إيران وأفغانستان.
لقد كان ذلك النهج صدى للموقف، الذي دافع عنه ليون تروتسكي، حينما اشتد الخلاف بينه وبين ستالين حول أي الخيارين ينبغي اتباعه، بناء الاشتراكية في كل بلد على حدة وبالتدريج، أم بناء الاشتراكية في كل البلدان بالتزامن، ما جعل الخلاف يبدو كأنه حول التوقيت فقط، بين تروتسكي المتسرع وستالين الأكثر تريثا، وهما على النقيض من زعيم الأمم الاشتراكية الثانية، الألماني كاوتسكي، لدى دعوته في أواخر حياته إلى "التطور السلمي نحو الاشتراكية".
ولعل هذه الصور من نظرة أقطاب واحدة من أعتى الأيديولوجيات، التي شهدتها البشرية في القرنين الماضيين، تكاد تكون متماثلة اليوم مع ما يعتمل داخل أيديولوجيا تيارات "الإسلام السياسي"، فالأيديولوجيات الصُّلبة لا تتبنى منطق التنازلات، الذي يفضي بها إلى تقسيم منظومة أهدافها وأولياتها إلى محطات ومراحل إلا وهي منهزمة وفي حالة جزْر، كما هو شأن الأيديولوجيا الشيوعية السوفييتية، والأيدولوجية "الإسلاموية"، لذلك تتلاطم أمواج الشقاق والخلاف والصراع بين أطرافهما ومكوناتهما لدى تبنّي أي تيار من تياراتهما منطقا مرحليا معينا، وتتصاعد أصوات الوصم بنعوت من قبيل "الردَّة" و"النكوص" و"الانحراف"، وذلك بخلاف الأيديولوجيا الليبرالية، التي تكاد معظم تياراتها تتصالح مع فكرة التمرحل طوعا نحو تقوية ميكانيزمات البقاء، وذلك حتى وهي تتقدم أو تتراجع عن سقف الأطروحة الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي إلى الكينزية، وفي الاجتماع إلى الراولزية.
يبدو إذًا أن العوامل، التي تدفع أيديولوجيات معينة إلى النشوء، تكون حاسمة في النمط، التي تبتنيه وهي تتأقلم وتتفاعل مع الكوابح، التي يحفل بها واقع الصراع، على غرار النشوء كرد فعل، كما حدث مع نشوء الشيوعية وأيديولوجيا "الإسلام السياسي" كموجة مشوهة انبعثت عن فشل ما سُمي "القومية العربية" في الجيل الأول والثاني.
لذلك فأيديولوجيا "الإسلام السياسي" سيقت إلى التشظي بين مروحة واسعة من الخيارات، تبدو في ظاهرها خلافات بنيوية تتصل بمواقف خالصة من قيم الديمقراطية وجوهر الدين الثقافي، وهي في الحقيقة مواقف تنام على وسادة واحدة -حيث لا اختلاف بينها جميعها- سوى في التوقيت.
فمَن ينظر مثلا إلى موقف وسلوك تنظيمات تتبنَّى العنف التكفيري كـ"داعش" و"النصرة" و"القاعدة"، يكتشف فيها قدرا من التسرع والوضوح بخصوص تنزيل الواقع المبني على قراءة مغلوطة وميكانيكية للتراث السياسي الديني، والذي تختزله فكرة ما يسمونه "إقامة دولة الخلافة"، في حين تراوح كل تيارات ما يسمى "اعتدالا" المكان بالدعوة إلى مهادنة جميع القوى والتيارات الأخرى، عبر الرهان على أدلجة المجتمع وتسميم الوعي الجمعي بنشر كمٍّ من الشعارات الكفيلة بدغدغة المشاعر والأحلام، وخلق حالة استعداد لقبول الفرد في مجتمعاتنا بأن نهجهم هو الحل لمشكلات الحياة المعاصرة.
لا يمكن أن يكون المشكل هو الطابع المحلي لـ"طالبان"، بقدر ما يكمن المشكل في تبنّيها منطق التمرحل وتقديم التنازلات على صعيدَي النظرية والممارسة، ما يعني أن الحركة تنتقل بين انتهاج منطق نهاية الشوط وبين منطق التمرحل، سواء بدأت بنشاط دعوي سياسي فكري، أو عُنفي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة