شاءت الأقدار أن أكون في الولايات المتحدة من 18 يوليو حتى 22 أغسطس الماضي.
وقضيت الجزء الأكبر من الرحلة في جامعة برانديز بضاحية "والثام" الملاصقة لمدينة "بوسطن" ذائعة الصيت بجامعات العصبة العاجية الأمريكية.
كان العد التنازلي للانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد بدأ، حتى قبل مغادرتي القاهرة، ولكن المفاجآت ما لبثت أن توالت اعتبارا من 15 أغسطس عندما دخلت قوات "طالبان" إلى العاصمة كابول بعد رحلة سهلة عبر الأقاليم الأفغانية لم تجرِ في أي منها معركة، ولا كان فيها مقاومة، ولا حدثت حرب.
خاضت الحركة المسافات كما تقطع سكين ساخنة قطعة زبد ظهرت في حالة انهيار لدى الحكومة المدنية الأفغانية وجيشها، الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة 88 مليار دولار لكي يصمد في مثل هذه اللحظات، ولكن هذه المليارات ضاعت بين غمضة عين وانتباهتها.
بقية القصة الأفغانية الآن معروفة، ولكنها في العالم الجامعي بمدينة الجامعات الراقية بدت لها الأولوية، وكان السؤال المُلح هو: هل لا تزال الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم؟
ثلاث قصص مختلفة دارت هناك حول تفسير ما جرى، والأهم ما سوف يُفضي إليه من مستقبل للدولة الأمريكية.
القصة الأولى بلغت أقصى درجات التشاؤم، واستعارت من قصص قيام وانهيار الإمبراطوريات، ومن ملامح ما جرى في انهيار الإمبراطورية السوفييتية، ومما إذا كانت أمريكا تعاني ملامح التفكك والانهيار.
والقصة الثانية أخذت اتجاها معاكسا، حيث حاولت أن تضع "الأزمة الأفغانية" -وليس الأمريكية- في حجمها وأخطائها الخاصة، كأنها "مجرد فشل واحد" في حزمة كبيرة من النجاحات، التي أحرزتها أمريكا: مواجهة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وانتصارها في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وقدرتها على إنقاذ دول وقارات، كما فعلت مع اليابان وألمانيا، وأوروبا في عمومها غربا أولا ثم شرقا ثانيا، ومؤخرا جنوبا ثالثا في البوسنة وكوسوفو، حتى وصلت إلى آسيا في اليابان وكوريا الجنوبية.
القصة الثالثة أخذت منحى مختلفا، فلم تكن ميالة إلى التاريخ كمصدر للإدانة أو التبرير، وإنما في النظر إلى الحاضر والمستقبل كمنظومة نابعة من واقع القرن الواحد والعشرين، الذي أعاد تشكيل أمريكا، كما أعاد تشكيل العالم بفعل الثورات التكنولوجية المعاصرة وآثارها على توازنات القوى العالمية، بل حتى على الداخل الأمريكي بولاياته المتنوعة وتركيباته الطبقية المتناقضة، وحتى المتأثرة بالتغيرات البيئية.
وهنا تحديدا ربما تكون النقطة الحرجة، التي عندها ستكون أمريكا قادرة على تجاوز أزمتها الراهنة أو تغرق فيها بلا عودة إلى المكانة والتأثير.
المشهد الأمريكي الآن هو نتاج أربع نُخب سياسية تناوبت السلطة الأمريكية خلال عقدين من القرن الحالي، ومثّلَها أربعة رؤساء، جورج بوش الابن، وباراك أوباما، أول الرؤساء من أصول أفريقية، ودونالد ترامب، الممثل لجماعة القوميين البيض القادم من خارج النخبة السياسية الأمريكية، وجوزيف بايدن، ابن النخبة السياسية الأمريكية البار، الذي كان عضوا في مجلس الشيوخ ولجنة العلاقات الخارجية ونائبا للرئيس لثمانية أعوام.
النقلة بين الرؤساء الأربعة لم تكن عملية انتخابية يجري فيها تبادل السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإنما كانت مثل البندول تتحرك بسرعة كبيرة بين اليسار واليمين في ظل ظروف محلية ودولية تجعل لكل رئيس مرحلة خاصة به، وما نحن الآن إلا في مرحلة "بايدن" والانسحاب من الشرق الأوسط، بما فيه أفغانستان بالطبع.
أصحاب القصة يرون أن العام الفارق كان عام 2000، الذي فاز فيه جورج بوش الابن، الجمهوري، على "آل جور"، نصير البيئة والكوكب الديمقراطي، بعد معركة انتخابية وأخرى قضائية وضعت بذور فكرة أن الانتخابات الأمريكية ليست نزيهة بالقدر المقدر، ولا الديمقراطية الأمريكية بالتماسك المتوقع.
كانت الولايات المتحدة قد أصبحت حينها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ومن الواجب أن تتحرك وأن تتصرف كما لو كانت هي كذلك فعلا، وإلا فقدت قدرا كبيرا من مكانتها وسمعتها.
مع جورج بوش الابن، لم تنقضِ بضعة شهور إلا ووُضعت النخبة السياسية في اختبار أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي قادت إلى غزو أفغانستان المتعجِّل في أكتوبر 2001، ومن بعده العراق في 2003، ولم يأت عام 2008 حتى كانت الولايات المتحدة، ومن ورائها العالم، في أزمة اقتصادية عميقة.
ثلاث رئاسات تلت جورج بوش الابن وجماعته من المحافظين الجدد -المطالبة بأن يكون القرن الجديد أمريكيا خالصا حتى لو اقتضى ذلك استخدام القوة العسكرية- جاءت مع باراك أوباما وجماعته من الشباب والتقدميين الجدد في الحزب الديمقراطي، ومعهم كان رد الفعل بالتحرك نحو الاتفاق مع إيران وفتح الأبواب لكوبا ومن ورائها الصين، وفي الداخل للهجرة الواسعة.
ولأن بندول السياسة الأمريكية كان يتحرك بسرعة كبيرة، فإن اتجاه أوباما يسارا بشدة ولد في الانتخابات التالية قيادة دونالد ترامب الجمهوري، فلم يكن الشعب الأمريكي مستعدا لفترة ثالثة من حكم أوباما بانتخاب هيلاري كلينتون.
ولأربع سنوات عاشت أمريكا تحت قيادة ذهبت إلى اليمين القومي، المتعصب للبيض والمائل للعزلة عن بقية العالم والمعارض بشدة للهجرة والمهاجرين بما فيه من حلفاء وأعداء.
انقسمت أمريكا كما لم تنقسم من قبل حول أزمة كورونا والاحتباس الحراري والانسحاب من حروب أبدية، ولحل الانقسام بدا جوزيف بايدن حلا معقولا، يريد الوحدة داخل أمريكا والتراجع في خارجها، وكانت أفغانستان هي التحدي، ولكن النتيجة في الداخل والخارج لا تزال مفتوحة، وسوف تظهر بشاراتها أو لعناتها مع انتخابات التجديد النصفي في العام القادم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة