لم تعد فكرة التحول الدولي فيما يخص منطقة الشرق الأوسط مجرد مناقشات، فقد بدأت بالفعل.
فالمنطقة تتهيأ لمرحلة سياسية مختلفة.. الانسحاب الأمريكي لم ولن يكون عملية عسكرية يتم من خلالها إعلان هزيمة أمريكا وفوز "طالبان"، التي يقدمها الأمريكان اليوم باعتبارها النموذج الأمثل لقيادة أفغانستان.
هذه الفرضية الأمريكية تقوم على متغيرات عميقة تدركها واشنطن، التي تطرح فكرة التناقض بين الأيديولوجيات والديمقراطية.
واليوم أصبح من الواضح أن العمل الأمريكي في أفغانستان لا يأتي ضمن فكرة "دمقرطة" الشعوب ومنحها الحريات، كما تشرح ذلك أمريكا لحلفائها، ففي الثورات العربية، وفي أفغانستان، تجمع أمريكا بين فكرة الانبعاث، التي حققها الإسلام السياسي بدايات القرن الماضي، وبين وهم "الدمقرطة" الأمريكية الحديثة.
الفكرة الأمريكية حول مشروعها في المنطقة يشبه لضم خيط من حديد في إبرة من زجاج.. هنا طبيعي أنه بمجرد اقتراب الحديد ينكسر الزجاج.. لنتصور هذه الفكرة سياسيا، فكلما أقدمت أمريكا على شق طريق للديمقراطية في الشرق الأوسط اختارت المسار الأكثر صعوبة.
فعبر التاريخ، أثبت الإسلام السياسي أنه من المستحيل تحوله إلى نموذج ديمقراطي، كونه مبنيا من الأيديولوجيا الجامدة على أرض تتنوع فيها الطبقات والزوايا، فليست كل منتجات المجتمعات العربية متشابهة.
"دمقرطة الإسلام السياسي"، مهما تم تعديلها، لن تنجح، فعندما تتحول السياسات إلى عقيدة صُلبة يستحيل معها وجود مختلفين أو ناقدين لها.
الولايات المتحدة اليوم تدرك حجم الأسئلة، التي تطرحها دول الشرق الأوسط، فالكل لديه تخوف من سلوك "طالبان" وينتظر على الأرض ما سيحصل منها ليقيم الموقف.
الخيار المتاح لتحليل ما يجري في أفغانستان لن يخرج عن مسارين، الأول يتجه نحو الفكرة القائلة بأن أمريكا أصبحت ترى نفسها خارج اللعبة السياسية للمنطقة، وفي الوقت ذاته تؤمن بأنها تدخل لعبة تنافسية مع دول كالصين والهند وروسيا وإيران، لذلك هي ترغب في صراع هذه الدول من خلال تجاربها مع الإسلام السياسي، أما المسار الثاني، وهو مطروح بقوة، حول فرضية اهتزاز العرش الأمريكي، حيث أصبحت أمريكا في عجَلة من أمرها لتصفية مشكلاتها في العالم والتركيز على منافسة الصين وروسيا بشكل مباشر.
دول الشرق الأوسط، بعد عودة "طالبان" لحكم أفغانستان، في مواجهة الآلة السياسية الدولية، فالسلوك السياسي المنتظر يمر عبر حقل ألغام، والعالم الغربي اليوم –حتى روسيا والصين والهند وإيران- يقدم المبادرات من أجل إقامة علاقات مناسبة مع "طالبان"، وفي المقابل تتراجع الدول العربية عن المبادرة السياسية فيما يخص أفغانستان، من حيث تقييمها السياسي الفعلي، كونها تعيد الأمر إلى مسار تاريخي، فحتى مساعدة أمريكا من بعض الدول العربية في القضية الأفغانية لن تعني أنه لا مخاوف لديها من سلوك "طالبان" وما يمكن أن يترتب عليه من ارتدادات على دول المنطقة.
القراءة المحتملة لواقع أفغانستان من الخارج يجب أن تكون أبعد بكثير من الحدود الأفغانية مع ست دول، بينها الصين وإيران وباكستان، أما أفغانستان من الداخل فقد يصعب على الفكر السياسي أن يتقبل أن تدير "طالبان" بتركيبتها ونهجها عملية سياسية مكتملة.
مهما تصوّر العالم تحوُّل "طالبان" فلن يتغير تاريخ أفغانستان، الذي وُلدت فيه أعتى المنظمات الإرهابية، والأمل الوحيد ألا تتحول أفغانستان إلى بحيرة تصب فيها القنوات الإرهابية من جديد، لمجرد أن واشنطن قد فكرت أن يعيد التاريخ نفسه، بينما نحن في عالمنا العربي قد ندفع الثمن من أجل فكرة التحول الدولي، الذي تمر به المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة