ثمة لقاء أمريكي-روسي مرتقب لبحث الأزمة السورية.
لن يحمل اللقاء تغيرات جوهرية في مواقف البلدين إزاء الأزمة، ولكنه سيؤسس لمزيد من الترتيبات في الاتفاقيات السابقة، خاصة على المستوى الإنساني، الذي نجحت موسكو إلى حد بعيد جدا في فصله عن المسار السياسي "المشلول" في سوريا.
يتميز اللقاء القادم بأنه الأول بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، ذلك الانسحاب "الهزيمة"، الذي تبحث واشنطن عن انتصارات هنا وهناك لتجاوز تداعياته داخليا وخارجيا، فهو لم يهز صورة القوة الأمريكية العسكرية في العالم فحسب، وإنما زاد الشكوك حول أسباب استخدام هذه القوة.
لن تجد الولايات المتحدة ضالتها في الملف السوري، ولكن الديمقراطيين الأمريكيين لا يريدون المغامرة بأي خطوة أينما كانت تزيد من تداعيات فشل إدارتهم في كابول، وتزيد من السخط الداخلي عليهم، وهُم على أبواب انتخابات نصفية للكونجرس، يحلم الجمهوريون باسترداد أكثريتهم البرلمانية عبرها.
الديمقراطيون يتمسكون بالبقاء شرق الفرات لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي وتطمين إسرائيل إزاء محاصرة النفوذ الإيراني في سوريا.. كذلك لا يريدون التخلي عن الكُرد بذات الطريقة، التي تخلوا فيها عن الأفغان، خاصة أن التخلي عن الكُرد يعني أيضا التخلي عن الأوروبيين، الذين يخشون عودة دواعشهم المعتقلين لدى قوات "سوريا الديمقراطية"، ويخشون كذلك موجات لجوء جديدة إذا ما قررت تركيا ملء أي فراغ يحدثه الانسحاب الأمريكي في الشمال السوري.
في المقابل، تبحث روسيا عن مزيد من "الشرعية" للرئيس السوري بشار الأسد، وهذا يقتضي بالضرورة توسيع نطاق توصيل المساعدات الإنسانية للسوريين عبر دمشق من جهة، وتوسيع هامش تعاون دول الشرق الأوسط مع موسكو في دعم العلاقات السورية-العربية من جهة ثانية.
الأمران بيد الولايات المتحدة، وهي تقبل بهما إلى حد ما، ولكن اختبار سقف هذا القبول ستحرص موسكو على معرفته خلال اللقاء المقبل، كما ستحرص على استدعاء كل الأسباب، التي تشجع الولايات المتحدة على رفع هذا السقف.
مساعدة لبنان عربيا عبر سوريا من الأسباب، التي يحملها الروس في جعبتهم، لحصد مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة في الملف السوري.
ولا شك أن واشنطن تهتم بهذا كثيرا، فقد قررت السماح لوفد وزاري من بيروت بزيارة دمشق وطلب العون منها في تمرير الكهرباء والغاز إلى لبنان.
مساعدة لبنان تهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بقدر ما تهمها، خاصة الأردن ومصر وإسرائيل، كذلك الدول الأوروبية، التي تعول على مثل هذا الدعم العربي لتجنب انهيار الدولة اللبنانية اقتصاديا ومالياً، وتجنب ما يجره هذا الانهيار من نتائج لا تحمد عقباها على المنطقة والعالم.
الدعم العربي للبنان هو الوجه الآخر للتعاون مع الحكومة السورية ومساعدتها على تحسين واقع السوريين في مناطق سيطرتها، والأمران يحتاجان إلى إعفاءات أمريكية من عقوبات "قانون قيصر"، الذي يحظر على الدول والأفراد التعامل مع دمشق، وعندما يبدأ مسلسل هذه الإعفاءات لن يتوقف.
الإعفاءات لا تعني تصالح الولايات المتحدة مع الرئيس السوري، ولكنها تقول إن واشنطن باتت تدرك أن العقوبات تضر بالشعب لا بالرئيس.
ولأن أمريكا لا تريد تغيير النظام في سوريا عسكرياً، ولا تريد ثورة جياع أو ناقمين تطيح به، فلا ضرورة لاستمرار "قانون قيصر" بذات الصرامة على أقل تقدير.
الإدارة الأمريكية الحالية أعلنت "انتهاء حقبة تغيير الأنظمة حول العالم بالقوة"، قاصدة كل دولة تقع على خلاف مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة.. فما بالك بدولة مثل سوريا تتمتع بأهمية استراتيجية لجميع حلفاء واشنطن في المنطقة، خاصة إسرائيل.
لا إزاحة للنظام ولا مصالحة معه، الأمر بهذه الطريقة يعني بشكل أو بآخر، ترسيخ واقع الانقسام الذي تعيشه الدولة السورية بين أمريكا وروسيا وتركيا وإيران، فالسعي فقط إلى الدعم الإنساني والاقتصادي للسوريين لن يحل المشكلات السياسية بين الحكومة وخصومها، ولن يحمل الانتقال المنشود إلى البلاد.
هذه السياسة الأمريكية تفتح الباب أمام عقد جديد من التبعية الخارجية لأجزاء الجسد السوري، ودول مثل إيران وتركيا تتلهف للاستفادة من هذا العقد لترسيخ هيمنتها على المناطق التي تسيطر عليها، فآلة الزمن عندما تشحن بجملة من الإجراءات "الخبيثة" تتكفل بإلغاء الهويات وإعادة رسم الخرائط، خاصة إنْ ترافقت هذه الإجراءات مع غض طرف دولي، وأمريكي تحديدا.
بالنسبة لتركيا، فهي توصل الليل بالنهار لتتريك شمال غرب سوريا، سواء عبر المناهج الدراسية أو ربط تلك المناطق بشبكات الطاقة والاتصالات التركية، أو إجبار سكانها على التعامل بالليرة التركية.
إيران هي الأخرى تتمدد فوق الجغرافيا السورية بمدارسها وجامعاتها ومصارفها وشركاتها، مستفيدة من الهوامش الأمريكية، التي تؤجل حل الأزمة وعودة الدولة السورية إلى وحدتها، كما تستفيد أيضا من هذا "اللهاث" الأمريكي لإبرام اتفاق مع طهران بشأن برنامجها النووي.
على عكس هذه الغايات غير النبيلة والأطماع الاستعمارية، يتعامل الجوار العربي مع الهوامش الأمريكية الجديدة في سوريا، فدول الجوار تخلق تكاملا اقتصاديا ضروريا بين الأشقاء من جهة، ومن جهة أخرى تعزز الجبهة العربية في مواجهة المشاريع التوسعية والعدوانية في المنطقة، وبقي هنا أن نشير إلى حاجة الجوار العربي إلى الروس من أجل ضمان التعامل المثالي مع الهوامش الأمريكية في سوريا، فروسيا ليست ضيفا عابرا على الشرق الأوسط، وليست دولة يمكن تجاهل مصالحها.
كلما التقت موسكو وواشنطن زادت احتمالات التقارب بينهما، وزادت الفرص السياسية والاقتصادية في المنطقة، لذلك يمكن القول إن ذلك اللقاء المرتقب بين مجلس الأمن القومي الأمريكي ووزارة الخارجية الروسية بشأن سوريا خلال أيام قد يستحق عناء الانتظار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة