ومن جديد تدهش الإمارات العربية المتحدة العالم، إنها تتجرأ على الأمل صباح مساء كل يوم.
لا ينتظر الإماراتيون غودو، فهم في فعل السعي الدائم، ذاك الذي يخلق واقعا جديدا، ومستقبلا يواكب تغيرات العصر.
لا يتطلع الإماراتيون في بلورة سحرية، بهدف قراءة مستقبل بلادهم، ومرد ذلك قناعاتهم بأن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته.
نظرة سريعة على وثيقة مبادئ الخمسين، التي أُعلنت في الإمارات قبل ساعات، توضح وبصورة جلية المنهجية العقلية التي تقود إلى النجاحات التراكمية، وكيف للشعوب أن تصنع دولة ناجحة في عقود قليلة.
خمسة عقود عمر الاتحاد، رقم في الظاهر قليل بحسابات التاريخ، لكنه عظيم الأثر والمفعول، حال يراجع المرء الثوابت التي انطلق منها روح الاتحاد.
أخوّة حقيقية، وتكاتف وجداني وعقلاني، مع آمال عريضات في القبض على النجوم، وهذا ما قد جرت به الأقدار قولا وفعلا خلال السنوات الأخيرة في الإمارات، التي باتت سردية من النجاحات المدهشة.
الذين قُدّر لهم متابعة أخبار دورة المشاريع الاستراتيجية الجديدة، التي أعلن عنها سمو الشيخ محمد بن راشد، وأخوه سمو الشيخ محمد بن زايد، يدرك كيف أن الإمارات لا تعرف المستحيل، وأن قادتها رجال يفكرون بعزم، ويعملون بحزم، ولا ينفكون إلا حين ينالون ما يقصدون.
أحلام الإمارات تتحقق دائما وأبدا لسبب بسيط، وهو الإيمان بقدرة الإنسان الإماراتي الخلاقة، إنه القضية وهو الحل، وقد تجلى ذلك الأمر بشكل فائق الوصف خلال أزمة كورونا، وتبدت الإنسانية الغامرة في التعاطي مع المواطنين والمقيمين، على حد سواء.
هذا هو سر الخلطة الإماراتية السحرية، النظر إلى الإنسان، أي أنسان وكل إنسان، بوصفه خليفة الله في الأرض، وله الحق في العيش بكرامة، وبغض النظر عن عِرقه أو لونه، مذهبه الروحي، أو معتقده الأيديولوجي.
في مقدمة مبادئ الخمسين العشرة، نجد تأكيدا لا يفارق الذهن لأولوية الأولويات، تلك التي تتمثل في الإبقاء على الاتحاد قويا، عبر مؤسساته وصلاحياته وميزانياته، وهنا تبدو المفارقة واضحة وملفتة للانتباه، ففي حين تتفكك عُرى اتحادات أخرى، كما الحال مع الاتحاد الأوروبي، يبقى النموذج الإماراتي عنوانا لمسيرة وحدوية متجددة، وقادرة على أن تمخر عُباب البحار الصعبة في عالم مضطرب ومرتبك، وفي ظل نظام عالمي غير واضح المعالم، هذا إن وفرنا حسن النية في زمن تبدو فيه الميكيافلية تعاود الانتشار في العقول والقلوب.
ما يميز الإمارات أنها حين تغامر في شرف مَروم، فلا تقنع أبدا بما هو دون النجوم، كما يقول الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، ولهذا فإن البند الثاني في خريطتها الاستراتيجية للخمسين عاما القادمة يتمثل في التركيز بشكل كامل على بناء الاقتصاد الأنشط في العالم.
صيغة الإمارات، التي أضحت صنوا لواقعها، هي صيغة أفعل التفضيل، فهي دوما تبحث عن الأنفع والأرفع، ولا تقف عند حدود المعروف أو الموصوف ولا تقنع أبدا بالمألوف، وهذا ما يعطيها نكتها الإبداعية المغايرة للدروب الاتباعية، إن جاز التعبير.
يمكن للمرء أن يطيل الحديث عن سياسات الإمارات الخارجية، غير أن ما ورد في المبدأ الثالث يقطع بأنها سياسات تقدمية لا ترفع الرايات الفاقعة ولا تستخدم الشعارات الزاعقة، فهدفها الرئيس هو خدمة المصالح العليا للدولة، والدولة في خدمة مواطنيها.
تدرك القيادة الإماراتية الحكيمة أن ما فاه به الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، قبل نحو قرنين وأزيد قليلا، من أن الجيوش تمشي على بطونها، قد تجاوز حاجز الساري عسكر، كما كان يطلق على جنوده، وبات ينسحب على بقية المواطنين، فمن غير اقتصاد قوي خلاق تخدمه السياسة، لا يمكن للأوطان المعاصرة أن تجد لها موطئ قدم في عالم براغماتي، ولهذا تظهر السياسة في خدمة الاقتصاد بحسب منطلقات وثيقة الخمسين.
أكثر صورة إنسانية تسر الناظر في المبادئ العشرة، والتي تعطي الإمارات مسحة قل أن توجد على كوكبنا الأزرق، هي اعتبارها رأس المال البشري المحرك الرئيسي للتنمية، وهذا يعني أن الإنسان ليس ترسا في ماكينة الرأسمالية، التي سلّعت البشر، وجعلت منهم تروسا تدور في ظل الأطر النيوليبرالية، وفي هذا نجد صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للروح الإيمانية، ولعمق التقدير للعنصر البشري، كما تبدّى في الكتب السماوية، وحتى عند أصحاب المبادئ الوضعية.
المنطلق الخامس في وثيقة المبادئ، يتناول حسن الجوار كأساس للاستقرار، وهو ديدن هذه الدولة المسالمة منذ أن خط الآباء المؤسسون خطوطها الأولى قبل خمسة عقود، وها هم "عيال زايد" يمضون في سبيل المَودّات القائمة على احترام الجار والنظر إليه بوصفه رصيدا مضافا، في مواجهة نوازل الحياة.
البند السابع يسعى في طريق ترسيخ السمعة العالمية للدولة، ولعل الحال هنا تغني عن السؤال، بعدما باتت دولة الإمارات تأتي في المرتبة الأولى للشباب العربي، قاصد الهجرة إلى الخارج، ومتقدمة عن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وهو أمر يستدعي قراءات سيسيولوجية معمقة، ربما ليس الآن موقعها أو موضعها، لكن باختصار غير مُخل، باتت سمعة الإمارات الأدبية عنوانا جاذبا للعقول والقلوب دفعة واحدة.
في الإطار الثامن نجد توجها وتأكيدا من القابضين على جمر التغيير الخلاق في الإمارات، لجهة منظومة القيم، التي كانت، والتي ستبقى، قائمة وقادمة، على الانفتاح والتسامح، على احترام الثقافات، وعلى ترسيخ فكر الأخوة الإنسانية، واحترام اختلاف وتعدد الهويات.
توضح الوثيقة في ركيزتها التاسعة أن المساعدات الإنسانية الخارجية للإمارات هي جزء لا يتجزأ من مسؤولية الدولة، وهنا فإن المشهد لا يحتاج إلى تحليل أو تأويل، فقد شاهد الكون بأسره طائرات الإمارات تحمل ملايين الأطنان من المواد الغذائية والطبية خلال عامي تفشي جائحة كوفيد-19 بكل تحوراته وتطوراته.
قدمت الإمارات من الخير الوفير الكثير، للقريب والغريب، للجار جغرافيا، والبعيد قاريا، ما جعل منها منارة حقيقية يهتدي بها الكبار من الذين يتوسمون في أنفسهم ملامح القطبية العالمية، ولم يحصد العالم منهم سوى الشوك عوض العنب، والعوسج مكان التين.
والأفضل في آخر القائمة، حين تتبدّى الرغبة للدعوة للسلم والمفاوضات لحل الخلافات كافة، كجذور عميقة للسياسات الخارجية الإماراتية، ما يجعل منها مثالا يحتذى في وقت يتوقع فيه المرء قلاقل واضطرابات من جديد.
حكما هذه سطور لعصف ذهني، فيما بقية ملامح الاستراتيجية تتوالى والمسيرة الناجحة تمضي إلى الأمام.. إنها عملية صناعة الغد والتنبؤ بالمستقبل لما بعد الغد، وإلى عقود طوال من النجاحات بإذن الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة