إذا كانت الديمقراطية ثقافة اجتماعية، ونظامَ اقتصاد، فإن كل الحروب لفرضها بالقوة هي حروب زائفة.
لا يحتاج الأمريكيون الآن دليلا إضافيا على هزيمتهم في أفغانستان ولا في العراق. والهزيمة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية. إنها هزيمة لمشروع فكري وسياسي أراد أن يُملي تصوراته بالقوة، فهزمته الحقائق.
أفغانستان الحقيقية هي ما نراه الآن. هي أفغانستان التي أراد بابراك كارمال أن يجعلها شيوعية فهزمته، وهي التي أراد حامد كرزاي وسواه أن يجعلوها ديمقراطية فهزمتهم أيضا. ذلك لأن التصور النظري الذي جاء كمحمول خارجي، بدبابات أو بحزب تابع للدبابات لم يبدُ إلا كجسم غريب، سرعان ما عزلته "المضادات" الطبيعية.
في أفغانستان حدث الانفجار مرتين، وانفجر في العراق كصراع طائفي لم تنقطع وحشيته حتى الآن.
المجتمعات تبدو في بعض الأحيان مثل طبق "الجيلي"، يمكن أن تهزه فيهتز، ولكنه سرعان ما يعود إلى وضعه السابق. وإذا زدت في قوة الهز فإنه يتهشم دون أن يتغير كثير في طبيعته سوى ما نشأ في الطبق من حطام.
ها نحن الآن أمام تخوف من أن تصبح القسوة هي السلاح الوحيد، لكي تُفرض على المجتمع العودة إلى الوراء.
أفغانستان التي لا يعرف أحد حدودا لما ستؤول إليه بعد عودة "طالبان" إلى الحكم، هي ذاتها العراق الذي يحار ماذا يفعل أمام تحدي الطائفية.
هل كان ذلك كله ضروريا؟ هل كان مفيدا للولايات المتحدة؟
الديمقراطية ليست قرارا يُتخذ في أي مكان. إنها مسار. إنها بصرٌ في حال المجتمع، وبصيرة لمداخل التحديث والبناء التي قد تمضي على أبطأ ما يمكن للبناء أن يكون.
الديمقراطية، حتى في بلدان نشأتها، كانت ثمرة سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والصراعات الأهلية، التي دامت نحو قرنين قبل أن تستقر على ما نراه من آليات ونتائج ونظم قانون وحقوق.
ولا تعرف كيف أصبح من الجائز لقوة خارجية أن تختزل هذا المسار بخلاصات تضعها مراكز الأبحاث التي تموّل الحروب بالأفكار، وحيث إنها خلاصات زائفة لأفكار زائفة، فإن حروبها لا بد أن تنتهي إلى هزائم منكرة.
إن الحرب المزيفة لا بد أن تنتهي بفضيحة فكرية أكبر بكثير من كونها هزيمة عسكرية.
"الديمقراطيون" في بلدان التخلف الاقتصادي والاجتماعي، ربما يكونون أصحاب نيات مخلصة "إذا كانوا بالفعل"، إلا أنهم سرعان ما يُصبحون حطبا لموقدٍ لا يطبخ إلا الحصى. فإذا ما ترافق جهدهم مع دبابات غزاة، جاؤوا مدججين بقوة الافتراضات، وافتراضات القوة، فإنهم سرعان ما يصبحون حطبا لجحيم تخيلوا أنه الفردوس الأخير.
في العراق لم يكن "الفردوس" إلا فردوس فساد، حيث أصبح نهب الدولة والاستيلاء على مقدراتها هو النظام. وفي أفغانستان، لم تكن الفوضى التي ظلت تعم البلاد بين غزوين، سوفييتي وأمريكي، إلا صورة أخرى للفساد نفسه عندما أصبحت تجارة المخدرات هي الناتج الإجمالي للاقتصاد.
الديمقراطية معترك تنمية وتعليم وتطلعات اجتماعية وفاعلية اقتصادية تحفر لنفسها مكانا في عالم مزدحم بالخيارات، ومن ثم لتنمو في مسار يمتد لأجيال قبل أن تنضج لها مفاهيم وتجارب تتوافق مع ما يتغير في رؤية المجتمع لنفسه، وقد تخطئ وتصيب، وتعود لتخطئ وتصيب، ولكنك لا تستطيع أن تحملها على ظهور الدبابات.. سوف تُصبح مدخلا لهزيمةٍ عسكرية منكرة، وقيحٍ يتفجر، وفضيحةٍ أعنف لفكرٍ اختار، لأسباب استعلائية، أن يكون أعمى البصر والبصيرة.
ما كان لديهم معترك قرنين من التحولات، جاؤوا به إلينا في "صناديق اقتراع" محمولة على ظهور الدبابات، فملأته مليشيات الولي الفقيه بالبطاقات المزورة.
أفغانستان، بكل ما نراه من تداعيات الآن، هي آخر الحروب الأمريكية الزائفة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة