خلال أسابيع ماضية، استوقفني واستوقف كثيراً محللين في واشنطن والعالم العربي، إصرار أمريكا للبقاء في العراق رغم الانسحاب من أفغانستان.
وبداية أقول إنه عقب تولي الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما زمام الأمور في البيت الأبيض عام 2009، تعهد بسحب القوات الأمريكية من العراق، وكان من المفترض "أن ينتقل الدور الأمريكي إلى الاستشاري"، لكن ظهور "داعش" في العراق وسوريا عام 2014 كشف عن حاجة العراق لاستمرار الدعم العسكري الأمريكي، الذي اعتمدت فيه الولايات المتحدة بشكل كبير على الضربات الجوية لصد تقدم التنظيم.
وقتها كان عدد الجنود الأمريكيين في العراق يقترب من خمسة آلاف جندي، وبعد هزيمة "داعش" بدأ عدد القوات الأمريكية في العراق في الانخفاض، وفي العام الماضي قرر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خفض هذا العدد ليصل إلى 2500، ومهما يكن من أمر، فإن الحديث عن الوجود العسكري الأمريكي في الشارع العراقي بات منحصراً في السنوات القليلة الماضية، في سماع أنباء عن شن القوات الأمريكية ضربات جوية أو غارات بطائرات مسيرة، ولم يرَ معظم المواطنين العراقيين جندياً أمريكياً أمامهم منذ سنوات.
اليوم، على عكس قرار سحب القوات العسكرية بالكامل من أفغانستان، تعتزم إدارة "بايدن" تقليص وجودها العسكري في العراق، مع إبقاء عددٍ من قواتها لتقديم المساعدة والتدريب لقوات الأمن العراقية في مواجهتها للتحديات الأمنية.
وهنا يجب أن أقول إننا لو قرأنا تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن لدى استقباله رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في البيت الأبيض، لتأكدنا أن واشنطن ستسحب قواتها من العراق حسب الطريقة الأمريكية، التي تعني "انسحاب اللا انسحاب"، ويظهر ذلك بوضوح في قول "بايدن": "الولايات المتّحدة ستنهي بحلول نهاية العام مهمتها القتالية في العراق لتباشر مرحلة جديدة من التعاون العسكري مع هذا البلد".
وبالتالي، وحسب الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، فإن القوات الأمريكية ستبقى، ولكن مع تغيير التسميات والمهمات، من قتالية إلى استشارية، ولأغراض لوجستية وبمهام تدريبية، وبالمحصلة، هذا يعني عدم انسحابها، وهذا أمر جيد، لو تخيلنا سيناريو انسحاب القوات الأمريكية من العراق في مثل هذه الظروف الأمنية الحرجة التي يعيشها العراق.
في ظل انفلات السلاح بأيدي المليشيات الموالية لإيران، وفي ظل النفوذ الإيراني المسيطر على غالبية الأوضاع العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، والتدخل التركي في أراضي كردستان العراق، وعدم جاهزية الجيش العراقي لمواجهة أي اعتداء، وهيمنة المليشيات الإيرانية على الملف الأمني، فإننا بلا شك سنكون مع معظم العراقيين في مطالبتهم ببقاء القوات الأمريكية.
وقد ظهر هذا الرأي بوضوح في كلام الأمين العام لـ"تجمع إنقاذ العراق ورفض التوسع الإيراني"، عبد الرزاق الشمري، الذي قال: "صدر بيان من القوى الوطنية الرافضة لخروج الأمريكيين من العراق الآن، وعقدنا مؤتمراً صحفياً لتوضيح أسباب دعوتنا لعدم خروج القوات الأمريكية".
اليوم لا يمكن القول إن الاتفاق الذي أبرمه "الكاظمي" مع "بايدن" يعد انسحاباً، فمعظم الساسة العراقيين يقولون إن "بايدن" وفريقه المفاوض لم يخبرونا بتفاصيل الدعم الاستشاري والتدريبي الذي نص عليه الاتفاق، وماذا لو تعرضت المقرات الحكومية العراقية إلى حصار من قبل الفصائل الموالية لإيران؟ هل ستتدخل قوات أمريكا استشارياً؟ وكيف يمكن الاطمئنان إلى أن الفصائل الموالية لإيران لن تعتبر تلك الاستشارات عدواناً يستحق الرد؟
في رأيي أن هذا الاتفاق ترك جوانب غامضة وأسئلة مفتوحة، فلا إشارة إلى سقفه الزمني ولا تحديد لحجم وعدد قوة الدعم التي ستبقى في العراق بعد نهاية العام الجاري.
وزاد من علامات الاستفهام صدور تعليقات وتفسيرات متباينة عن الإدارة الأمريكية، فبينما أكّد "بايدن" "نهاية الدور القتالي" للقوات الأمريكية، نُسب إلى مسؤول في الإدارة ذاتها قوله إن ما جرى التوافق بشأنه "لن يقود إلى تغيير جوهري في العدد ولا في مهمة القوات"، وكان الأهم من كل ذلك قول الناطقة الرسمية باسم "البيت الأبيض"، جين ساكي، إن الترتيب الجديد هو في إطار التنسيق مع العراقيين في مواجهة "داعش" وجماعات إيران في العراق".
كل ما سبق يؤكد أن ما حصل وسيحصل ليس انسحاباً، وأن هذا الاتفاق في مجمله ترضية أمريكية لـ"الكاظمي"، وهو المفاوض الذي لم يكن بيده كثير من الخيارات، ولم يكن قادراً على عرض المزيد من الأوراق، وهو الذي تجاوز عقداً وعراقيل مهمة كان يمكن أن تشكل إحراجاً وضعفاً له ولموقفه في التفاوض، لكن لم يكن يمكنه الدعوة إلى انسحاب أمريكي كامل وواضح المعالم من العراق، خاصة أن الجيش والمؤسسات الأمنية موزعة الولاءات، كما أن بيئة الانقسام السياسي تشجع على المزيد من التدخلات في شؤون الأمن.
وهنا يرد السؤال: ما الذي يختلف في المشهد العراقي عن المشهد الأفغاني، الذي انسحبت منه أمريكا بالكامل؟
والإجابة هنا أنه لا يختلف المراقبون أبداً في أن هجمات "طالبان" قد سببت انزعاجاً وقلقاً واستنزافاً للقوات الأمريكية، رغم أن الولايات المتحدة قد استخدمت كل أنواع الأسلحة في أفغانستان، غير أن ارتفاع تكلفة إقامة القوات العسكرية الأمريكية الاحتلالية مادياً ومعنوياً صار دون عائد، وأن هجمات "طالبان" واستمرارها على مدى 20 عاماً كانت من أسباب الحسم في قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فأمريكا لا تريد تكرار تجربة فيتنام أو الروس في أفغانستان، ورغم تعرض القوات الأمريكية لهجمات أكثر في العراق، فقد ظلت موجودة بسبب النفط والموقع الاستراتيجي قرب إيران.
ورغم توسل الحكومة الأفغانية للأمريكان أن يظلوا موجودين، وذهاب الرئيس الأفغاني لمقابلة الرئيس الأمريكي، لعله يجد فرصة قبول لبقاء القوات الأمريكية، كان القرار الأمريكي صارماً في الانسحاب.
كذلك فإن "طالبان" أمامها تحديات أعتى بعشرات المرات من مقاومة الاحتلال، فهي تحتاج إلى تحييد الأعداء وتقليل الجبهات والقيام بمناورات سياسية، والدفع لزيادة الدول الصديقة وتكوين التحالفات، وبناء وإدارة دولة في وسط كل هذه المخاطر وكل هذه الأحلام هو ضرب من الخيال، قياساً إلى قدرات "طالبان" المحدودة، وبالتالي فليس هناك من مكسب تستطيع هذه الحركة ادعاءه عبر الانسحاب الأمريكي، الذي رماها في دهاليز مشكلات لا قدرة لها على مواجهتها.
خلاصة القول، بغض النظر عن قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ومبرراته بتقليل كلفة ذلك الوجود، وكل الأسباب والمبررات المعلنة، فما هو إلا خطوة في استراتيجية أمريكية لم تتغير.
وفي النهاية، لم يعد التخلي الفاعل والنشط بشكل مباشر عبر وجود قوات مجزياً أو مطلوباً لتحقيق أهداف إضافية، ذلك أن أحد الفوارق الرئيسية في نهج "بايدن" بين العراق وأفغانستان هو أن الحكومة الأفغانية كانت حريصة على أن تحافظ واشنطن على وجودها العسكري، بينما أرادت الحكومة العراقية تقليص القوات الأمريكية لعملياتها العسكرية.
أيضاً فإن مسألة الوجود الأمريكي في العراق تبقى مرهونة بالواقع العراقي وتقديرات المؤسسات الأمنية العراقية والإدارة الأمريكية، ولا يمكن لواشنطن الرضوخ إلى رغبات بعض الجهات السياسية والمليشيات المسلحة في العراق بسحب قواتها، فالعراق يمثل الكثير للولايات المتحدة، فيما يتعلق بأمن حلفائها في المنطقة، وكذلك صد الاندفاع التركي، وضمان أمن جنوب شرق المتوسط، فهذا جزء من أولويات الاستراتيجية الأمريكية التي لا تتغير وإن اختلفت التسميات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة