استهداف بنية العراق التحتية من جهات مجهولة شكلا، معلومة انتماء، لا تخرج عن تعمد تعميق جراح العراقي ودفعه نحو الاضطراب والفوضى.
كما تتعمد إغراق العراقي في جدلية الانتماء، بين خيار الدولة المنشودة بكل مقوماتها ودورها ووظائفها، وبين خيار الاستسلام لواقع التشرذم الذي تفرضه الصيغة المليشياوية المتورمة الساعية لابتلاع كيان مؤسسات الدولة وتشظية بنيتها الأساسية، وتكريس انطباع زائف حول فشل السلطة العراقية الرسمية في إدارة ومعالجة ملفات الناس الحياتية والمعيشية الضاغطة والمتراكمة، فضلا عن الأمنية.
تضخمت المجاميع المليشياوية وتمددت.. تغلغلت في ثنايا الحكاية العراقية سياسيا واجتماعيا وأمنيا، وحتى خارجيا في بعض الملفات والقضايا.. تجاوزت قوانين الدولة وضوابطها الدستورية، حيث بدت في بعض المسائل صاحبة تأثير مباشر على سياسات ومصالح الدولة العليا سعيا لتطويع سياسييها ونهجهم لما يخدم أجنداتها وما تتطلبه مصالح رعاتها الخارجيين.
جملة وقائع أفرزتها سياسات رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي منذ توليه السلطة، داخلية وخارجية، وشكلت ملامح توجهاته لإدارة البلاد.
على الصعيد الداخلي بدا الرجل مصمما على العمل من أجل استعادة هيبة سلطة الحكم.. نجح في بعض الملفات بشكل نسبي، لكن حجم التحديات الأمنية، وتحديدا ما تعلق منها بتصفية عدد من الناشطين والحقوقيين شكل هاجسا مضنيا، بعد أن تواترت عمليات الخطف والاغتيال في مرحلة الاحتجاجات الشعبية وما بعدها، وبروز أصوات تقاطعت مع إعلان الكاظمي إيلاءه هذا الموضوع حصة كبيرة من متابعاته واهتماماته.
إعلانه الإشراف الشخصي على تحرير الناشط علي المكدام من أيدي خاطفيه حمل الكثير من الرسائل التي تترجم إصراره على مواجهة هذا التحدي بجميع عناصره وأدواته، وتمسكه بقرار حماية هذه الشريحة من الشباب الطامحين إلى الانعتاق والتحرر من قيود الطوائف والمذاهب، الساعين بإرادة حرة وواعية إلى تعرية الفساد والمفسدين ورفض التسليم بالسائد باعتباره قدر العراق والعراقيين ولا مجال لتغييره.
لماذا يضع رئيس الحكومة مقامه الشخصي والاعتباري على رأس هرم المجموعة الأمنية العليا المعنية بتحرير أحد المخطوفين، كأنه ند للخاطفين، ويتبنى الإشراف على العملية ومن ثم يتبنى نتائجها؟
ما رسائله من وراء ذلك؟، وهل تتوقف تلك الرسائل عند التذكير بخبراته الأمنية مذ كان رئيسا لجهاز المخابرات فحسب؟ أم أن الهدف أبعد من ذلك بكثير؟
يوحي سلوك "الكاظمي" ومواقفه بأنه وحيد ضمن سلطة حكومية وبرلمانية غائبة أو مغيبة عن الدور والمسؤولية بفعل الضرورة التي تفرضها ولاءات كثير من التيارات والقوى والأحزاب الممثلة في السلطات البرلمانية والحكومية والأمنية لمصالح دول خارجية، على رأسها إيران.
انتفت لدى كثير منهم، "بفعل ضرورة التبعية"، الإرادة بوصفها سلوكا واعيا نابعا من الإحساس بالاستقلالية وبالمسؤولية، بمضامينها الأخلاقية والوطنية والسياسية.
تراجعت حظوظ القواسم المشتركة بين ثالوث السلطة حيال إدارة ومعالجة مشاكل العراق، التي تتعمق يوما بعد آخر.
منح ذلك التراجع تلك الأشباح "مجهولة الشكل، معلومة الانتماء والدوافع" فرصة التسلل إلى مرافق حيوية يشكل استهدافها إيذاء مباشرا للشرائح العراقية المتعبة، وتشويها مقصودا لصورة السلطة العراقية وهيبتها.
انتقلوا إلى ما بات يعرف بـ"حرب أبراج الطاقة الكهربائية".. استهداف أبراج الطاقة يمثل حربا أكثر قسوة على الناس وعلى الحكومة العراقية من مواجهات أمنية مع طرف مسلح لأنه يفعل فعله باتجاهين في آن، الأول زيادة الأعباء على هذه الشرائح ودفعها إلى التذمر وتجاوز القوانين وتفجير اضطرابات اجتماعية، الاتجاه الثاني تعميق الشرخ بين الناس والسلطة بحيث تتراجع الثقة بها تدريجيا، وصولا إلى إظهارها بمظهر العاجز.
منذ أن أيقنوا أن السلطة بشخص رئيس الحكومة عازمة على استعادة العراق من متاهات التشظي الداخلي، وقطع الطريق على المستثمرين بسيادته وقراره السياسي المستقل لمصالحهم، سلك "الأشباح" مسارات تخريبية يصعب التنبؤ بمآلاتها.
اتضح مع مرور الوقت أن نجاح "الكاظمي" في ابتكار مقاربات سياسية متوازنة لعلاقات العراق العربية والإقليمية والدولية لم تحظ بقبول ورضا تلك القوى وتياراتها داخل العراق بحكم الضرورة النابعة من تبعيتها لإيران، رغم نهج الحكومة العراقية الواضح في تمثل أهمية الحقائق الجغرافية والديمغرافية والتاريخية للعلاقة مع طهران من جهة، وبحكم الإرادة السياسية الواعية لأهمية قيام علاقات حسن جوار وتبادل مصالح معها دون تدخل في شؤون أي طرف من جهة ثانية.
سجّل رئيس الوزراء العراقي عددا من النقاط في سياق نهجه الرامي إلى إعادة وضع العراق على سكته العربية، سواء من خلال زياراته الخارجية أو عبر مواقفه المعلنة بضرورة تجنيب العراق دوامة الصراعات الخارجية، ورفض تحويله إلى ساحة لتصفية الحسابات بين اللاعبين.
لم يركن إلى زاوية المطالبات والمناشدات وحسب، بلور صيغة تعاون عربي مشترك أطلق عليها "الشام الجديد" بين أقطاب عربية، العراق، مصر، الأردن.. ويبدو أن توجهه هذا رفع منسوب التحديات لسلطته.
صراع السلطة العراقية مع "الأشباح" هو صراع بين إرادة ترى العراق وطنا جامعا مستقلا، وضرورة تسعى أجندات خارجية لفرضها كأمر واقع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة