فجأة ودون مقدمات، تعرض العراق لأزمة شديدة في الطاقة الكهربائية بسبب توقف إمدادات الغاز الإيرانية.
ربما ليست مصادفة أن تتوقف طهران عن إمداد العراق بالغاز اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، بعد مرور أيام قليلة على خطوة مهمة في اتجاه التقارب وتوثيق تعاون العراق مع الدول العربية، وهي القمة الثلاثية العراقية-المصرية-الأردنية التي استضافتها بغداد مؤخراً.
فقد بدا واضحاً من انعقاد القمة على أرض العراق، وما أسفرت عنه من تفاهمات واتفاقات، أن التعاون العراقي العربي يتقاطع مباشرة مع مصالح ونفوذ أطراف تتأذى من ذلك التعاون، خصوصاً إيران وأذرعها داخل العراق.
منذ احتلال العراق عام 2003، شهدت العلاقات العراقية-العربية محاولات متكررة لاستعادة العراق إلى حاضنته العربية.
كم مرة حاول العرب والعراقيون مد جسور التواصل بينهما، وفي كل مرة كان الإخفاق هو مصير تلك المحاولات، بسبب تعجل النتائج دون وضع أسس قوية أو تبني مدخل غير عملي لا يضمن إقامة روابط مصلحية ومنافع متبادلة لكل الأطراف.
لكن هناك سبباً جوهرياً في تعطيل كل المحاولات السابقة، هو الفتنة، التي زرعها الغزو الأمريكي بين مكونات المجتمع العراقي من خلال الدستور، الذي تم وضعه في 2015، ثم الفتنة بين العراقيين ككل ومحيطهم العربي من خلال السماح بالتمدد الإيراني في العراق.
في المقابل، يمكن تفسير التردد العربي في الانفتاح على العراق واحتوائه، إذا تذكرنا أن بعض التحركات في هذا الاتجاه كانت عواقبها وخيمة.
فحين شرعت مصر في محاولة لعب دور على مستوى مشروعات إعادة الإعمار تعرضت شركاتها، التي اندفعت إلى العمل في العراق، لتهديدات أمنية خطيرة، وصلت إلى حد اختطاف المهندسين والعمال، ثم اختطاف وقتل السفير المصري الراحل إيهاب الشريف، ذلك الحدث الذي كان تحذيرا شديد اللهجة دفع كل الدول العربية، وليست مصر وحدها، نحو التراجع خطوات إلى الوراء.
واستغرق الأمر ما يزيد على عشر سنوات ظلت خلالها الدول العربية، ولها كل الحق، تتطلع إلى تهيئة الأوضاع والاطمئنان إلى وجود الإرادة السياسية وتوافر بيئة آمنة للتقارب على الجانب العراقي.
ليس من الواقعية تخيُّل أن كل مقومات وشروط استعادة العراق عربياً قد توافرت فجأة وبشكل كامل.
صحيح أن العراقيين قد استوعبوا دروس الأعوام الماضية، واستنفدوا كل طاقتهم وقدراتهم على تحمل الطائفية والفساد وتغول المليشيات، فضلاً عن الأعباء المعيشية وصعوبات الحياة اليومية.
وبدا واضحاً من التظاهرات وموجات الاحتجاج الشعبي المتتالية، أن غالبية العراقيين لم يعد لديهم استعداد لتدوير وإعادة إنتاج تلك الأوضاع المتردية مع كل دورة انتخابية.
لكن مقابل كل هذه البوادر، التي تدعو إلى التفاؤل، تقتضي الواقعية والمنطق إدراك أن كثيراً من العقبات والتحديات لا تزال قائمة، ولا يمكن التغلب عليها بمجرد توافر الإرادة لدى الحكومة العراقية أو نشوء رغبة شعبية حقيقية في التخلص من الوضع القائم.
وهنا يكمن الجديد والمختلف في مساعي التقارب العراقي العربي هذه المرة، وهو إدراك الدول العربية والعراق لتلك التحديات وللصعوبات الظاهرة والخفية أمام استعادة العراق إلى محيطه العربي.
وليس أدل على ذلك الوعي العربي والعراقي، من عدم الاندفاع إلى تقوية العلاقات السياسية أو رفع شعارات ووضع قائمة أهداف غير واقعية.
ومن أهم المبشرات في هذا الصدد، التدرج الذي تسير به وتيرة التقارب العربي العراقي، فلا تعجل ولا قفز على الحقائق القائمة على الأرض.
هناك أيضاً الحرص الواضح على الشمول والتعدد في مسارات التقارب، بدءاً بتعددية الأطراف وعدم حصرها في نطاق محدد أو مجموعة بعينها. فعلى التوازي مع التقارب العراقي-المصري-الأردني، تسير العلاقات بين العراق ودول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، في اتجاهها الصحيح وعلى نحو متوازن وعملي وفعال.
ما يبعث رسالة واضحة إلى كل الأطراف المعنية، أن الأمر لا يتعلق بمحاور أو استقطابات ضد طرف أو مع آخر، وإنما هو انفتاح عام غير مشروط سوى بالمصالح والأمن والاستقرار في العراق والمنطقة.
هذا ما يجعل التقارب العراقي العربي مختلفاً هذه المرة، ويبشر بتحقيق نتائج إيجابية فعلية وليست افتراضية.
أما عن مداخل وطرائق الوصول إلى تلك النتائج، وكيفية مواجهة التحديات والعقبات الموجودة بطبيعة الحال، فهي جديرة أيضاً بالتأمل والتحليل في وقت لاحق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة