يقترب 11 سبتمبر 2021، لتنهي أمريكا وجودها العسكري في أفغانستان، وتتلاحق هناك أحداث سياسية وتحركات عسكرية، وتتعدد الدول المتدخلة.
فعلى المستوى العسكري، ومع استمرار انسحاب القوات الأمريكية، تحركت "طالبان" واحتلت مساحات واسعة من الأراضي، بما فيها نقاط المعابر الحدودية مع باكستان وطاجيكستان، الأمر الذي دفع بالجيش الأمريكي إلى توجيه ضربات عسكرية ضدها.
وتعهد وزير الدفاع الأمريكي وأمين عام حلف الأطلنطي باستمرار الدعم اللوجيستي والتدريبي للجيش الأفغاني بعد إتمام الانسحاب، فيما أدت القوات الروسية مناورات عسكرية مع طاجيكستان وأوزباكستان في الأسبوع الماضي، وتعد لتدريبات عسكرية مع الصين هذا الأسبوع.
وعلى المستوى السياسي، زار الرئيس الأفغاني، أشرف غني، واشنطن في 24 يونيو الماضي، وقامت وفود من حركة "طالبان" بزيارات إلى روسيا والصين وإيران وتركيا في شهر يوليو الماضي، إضافة بالطبع إلى العلاقات الوثيقة التي تربط الحركة بباكستان.
وتستمر مفاوضات صعبة بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان" للوصول إلى حل سياسي.
وحذَّر وزير الخارجية الأمريكي من أن استيلاء "طالبان" على الحكم بالقوة سوف يجعل أفغانستان "دولة منبوذة دولياً".
يرجع هذا الاهتمام والتدافع الدولي إلى أهمية موقع أفغانستان الاستراتيجي، فهي تقع في وسط آسيا، ولها حدود مع ست دول يبلغ طولها 5489 كيلومترا، أقصرها مع الصين شرقاً بطول 76 كيلومترا، يليها إيران غرباً بطول 920 كيلومترا، فباكستان جنوباً بطول 2200 كيلومتر، فحدودها الشمالية مع تركمانستان وأوزباكستان وطاجيكستان بطول 2293 كيلومترا. وأدى ذلك إلى ازدياد التطلعات الأوروبية لمد نفوذها في أفغانستان من ناحية، وأدت تضاريسها الجبلية الوعرة إلى صعوبة استمرار أي احتلال أجنبي لها من ناحية أخرى.
فخلال القرن التاسع عشر، تبلور التنافس البريطاني الروسي في وسط آسيا، وشعر البريطانيون بالريبة تجاه النشاط الروسي في غرب القارة، وتأثيره على الوجود البريطاني في الهند، التي كانت تُعتبر دُرة الإمبراطورية.
في هذا السياق، قررت بريطانيا احتلال أفغانستان، فنشبت الحرب البريطانية الأفغانية الأولى "1839-1842"، وانتهت بشبه تدمير للجيش البريطاني واتجاه القوات الأفغانية للهجوم على الهند البريطانية.
ثم عاودت بريطانيا المحاولة، فنشبت الحرب البريطانية الأفغانية الثانية "1878-1880"، والتي تبلور في أعقابها التعاون البريطاني الروسي وتعيين الحدود الدولية لأفغانستان بما يتفق مع مصالح الدولتين.
استمر الوضع قلقاً حتى نشوب الحرب البريطانية الأفغانية الثالثة في عام 1919، والتي اضطُرت بريطانيا في أعقابها إلى الاعتراف باستقلال أفغانستان.
وبعد فترة من الهدوء خلال حُكم الملك محمد نادر شاه، حكم خلال الفترة 1929-1933، وابنه الملك محمد ظاهر شاه، حكم خلال الفترة 1933-1973، اتبعت أفغانستان سياسة العُزلة والحياد تجاه الصراعات الدولية.
ولكن لعبة الأمم عادت مرة أخرى في عام 1973 عندما قام محمد داوود خان بانقلاب على ابن عمه، الملك ظاهر شاه، بدعم من الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني، الذي تبنَّى المبادئ الشيوعية وكان صديقاً لموسكو.
وقام داوود شاه بإلغاء الملكية وإقامة النظام الجمهوري، لكن سُرعان ما انقلب على الشيوعيين ونكل بهم وقطع علاقاته بموسكو، مما أدى إلى قيام مجموعة مسلحة من الحزب باغتياله عام 1978 والاستيلاء على السُلطة.
ولدعم نظامهم الجديد، طلبوا من القوات السوفييتية التدخل في عام 1979، والتي سُرعان ما تدفقت عبر الحدود المشتركة بين البلدين.
بالطبع، لم تقبل الولايات المتحدة وحلفاؤها هذا التطور، وقامت واشنطن بتوظيف الحمية الدينية ضد النظام الشيوعي في كابول، كذلك تنظيم أنشطة الذين قدموا من كل البلاد الإسلامية، وقاموا بشن هجمات على الأهداف الحيوية للنظام، مما أجبر الاتحاد السوفييتي على الانسحاب في عام 1989، خصوصاً مع ثورات شرق أوروبا وتأثيراتها السلبية على الاتحاد السوفييتي نفسه، الذي تفكك في 1991.
وأعقب هذا الانسحاب مرحلة من الفوضى وعدم الاستقرار انتهت بتولي قادة "طالبان" الحُكم عام 1996، وهي الحركة المُمثِّلة لإثنية البشتون، التي تُمثل قرابة 45% من السكان.
لم تتوقف لعبة الأمم في أفغانستان، فبعد سنوات من الإدانات العالمية لأنماط السلوك المتطرفة، التي مارستها "طالبان"، وتدميرها تماثيل تاريخية لبوذا، التي اعتُبرت جزءاً من التراث الإنساني، قامت أمريكا بالتدخل العسكري في أعقاب الهجوم على برجي التجارة ووزارة الدفاع في 11 سبتمبر 2001 ومسؤولية تنظيم "القاعدة" الإرهابي، الذي كانت تدعمه حكومة "طالبان" وتوفر له ملاذاً آمناً، عن تدبير هذا الهجوم.
وها هي تلك القوات تنسحب بعد عقدين دون تحقيق النصر على قوات "طالبان" واضطرار واشنطن إلى التفاوض مع ممثليها، وتوقيع اتفاقية لضمان عدم قيامها بالهجوم على الأهداف الأمريكية إبان عملية الانسحاب.
إذا كان اسم أفغانستان يعني بلاد الأفغان، فقد أكد التاريخ صِدق هذا المعنى، وكان من الصعب للغاية على أي دولة إقليمية أو غربية فرض سيطرتها العسكرية عليها، كما كان من الصعب على أهلها أن ينعموا بالهدوء والاستقرار لفترات ممتدة بسبب التدخلات الخارجية في شؤونهم، وتنوع تكويناتها الاجتماعية والمذهبية.
فهل يُمكن أن تنتهي لعبة الأمم في أفغانستان هذه المرة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة