إعادة ترسيم الحضور الفرنسي.. إضاءات من جولة ماكرون بأفريقيا
يمكن اعتبار أن أحد أبرز أهداف زيارة ماكرون لساحل العاج والنيجر هو تعبيد الطريق لعقد قمة "بو" الشهر المقبل.
يولي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اهتماما خاصا بسياسة بلاده تجاه قارة أفريقيا، حتى إنه يقدم نفسه أمام المجتمع الدولي باعتباره باني عصر جديد من العلاقات بين بلاده ودول أفريقيا الناطقة بالفرنسية.
وفي هذا الصدد يطرح العديد من الرؤى التي اعتبرها كثيرون مثيرة للجدل فيما يخص العلاقات بين الجانبين وبالتواجد الفرنسي في القارة، مثل الاعتذار عن الدور الاستعماري لفرنسا في أفريقيا تاريخيا، ومبادرته لإعادة بعض الآثار الأفريقية التي انتهى بها الحال في فرنسا، وتثمين دور المقاتلين الأفارقة في معارك تحرير فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
بيد أن من أبرز ما يركز عليه الرئيس الفرنسي في هذا السياق هو تفعيل دور بلاده في جهود مكافحة الإرهاب في الدول الأفريقية، والذي يبدو أن ماكرون يكرسه من خلال عدد من الممارسات البروتوكولية مثلما تجلى خلال جولته الأخيرة في غرب أفريقيا في ديسمبر/كانون الأول الجاري والتي شملت ساحل العاج والنيجر.
قامت فرنسا منذ عام 2015 بإرسال حوالي 4500 من قواتها إلى منطقة الساحل في غرب أفريقيا للمساهمة في المهام العسكرية التي تهدف إلى تقديم الدعم للدول الأفريقية في محاربة المقاتلين المتطرفين واستعادة الأمن في المنطقة.
وعكست زيارة ماكرون الأخيرة لغرب أفريقيا الأهمية المحورية لوجود تلك القوات في السياسة الخارجية لبلاده تجاه القارة السمراء، تجلى ذلك من خلال عدة مظاهر، منها تصريحاته حول دور بلاده في محاربة التطرف، حيث أكد تصميمه على محاربة تطرف تنظيم داعش الإرهابي في غرب أفريقيا، مضيفا أن بلاده "ستواصل القتال".
في السياق ذاته عمد ماكرون إلى إلقاء الضوء على إنجازات قواته في هذا السياق عبر الإعلان عن نجاح القوات الفرنسية في قتل 33 إرهابياً، وذلك في عملية نفذتها القوات الفرنسية باستخدام طائرات مروحية هجومية وقوات برية وطائرة بدون طيار في منطقة موبتي بوسط مالي.
تجدر الإشارة إلى أن إعلان ماكرون عن نجاحات بلاده في تصفية هذا العدد من الإرهابيين كان أمرا في غاية الأهمية على المستويين الخارجي والداخلي، حيث يأتي لك ردا على تكبد القوات الفرنسية أكبر خسارة في صفوفها منذ نحو 40عاما، عبر مقتل 13 من جنود عملية برخان في حادث تصادم مروحيتين خلال عملية لمكافحة الجهاديين في مالي.
في السياق ذاته، شهدت الزيارة إعلان الرئيس الفرنسي بدء تنفيذ مشروع بناء الأكاديمية الدولية لمكافحة الإرهاب بالقرب من أبيدجان، وهو المشروع الذي كان قد تم الاتفاق عليه في 2017 خلال قمة الاتحاد الأوروبي-أفريقيا بهدف أن يكون مرجعا لتأهيل الكوادر المحلية القادرة على محاربة الإرهاب في أفريقيا، وهو ما يتسق مع تأكيدات ماكرون المتكررة أن فرنسا لا تستطيع مكافحة التيارات الإرهابية بمفردها في منطقة الساحل، وأنه يرغب في إعطاء "دفع جديد" لمكافحة الإرهابيين في منطقة الساحل.
من ناحية ثانية، يحرص الرئيس الفرنسي على التواصل المباشر مع جنود بلاده المتمركزين في أفريقيا على نحو يحمل رسائل تطمينية لهم وداعمة لروحهم المعنوية، ومن ثم قرر ماكرون للسنة الثالثة على التوالي، الاحتفال بعيد الميلاد في قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا مع الجنود الفرنسيين المنتشرين هناك.
فبعد النيجر عام 2017 وتشاد عام 2018، زار قاعدة "بور بويت" في ساحل العاج التي تضم حوالي 1000 جندي فرنسي، بمرافقة وزيرة الجيوش فلورانس بارلي ورئيس الأركان فرنسوا لوكوانتر، وخلال هذه الزيارة دعي عدد من الجنود الذين شاركوا في العمليات الفرنسية الأخيرة في أفريقيا وآخرون يعملون في منطقة الساحل إلى أبيدجان ليتحدثوا إليه، فيما حرصت زوجته السيدة بريجيت ماكرون على لقاء عائلات هؤلاء العسكريين الفرنسيين المتمركزين في ساحل العاج.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية
يصدر الرئيس الفرنسي صورة مفادها اهتمام باريس بالأبعاد الاجتماعية الاقتصادية في علاقة بلاده بدول أفريقيا الناطقة بالفرنسية في محاولة لإضفاء حالة من التوازن على هذه العلاقات.
في هذا السياق أبدى ماكرون خلال زيارته الأخيرة اهتماما واضحا بقضايا الشباب والرياضة مؤكدا أن لفرنسا دورا أساسيا تؤديه في المساعدة على تمكين الشبيبة الأفريقية وبناء علاقة جديدة، تكون في آن واحد خاصة ولا تشوبها تعقيدات مع القارة الأفريقية وبالأخص مع ساحل العاج، ولتأكيد ذلك التوجه التقى ماكرون آلاف الأطفال الآتين من حي شعبي في أبيدجان في مجمع رياضي جرى تشييده وتمويله بمساعدة فرنسية، كما حرص على إعطاء زخم شعبي لزيارته لساحل العاج وذلك بمرافقة النجم المحلي لاعب كرة القدم السابق ديدييه دروجبا لماكرون خلال هذه الجولة، وقال دروجبا إنّ "هذا المجمع يمثّل للشبيبة في الحقيقة رمزا للوئام الفرنسي-العاجي".
على صعيد أكثر تأثيرا، يعد موقف ماكرون من إنهاء العمل بالفرنك الأفريقي نهاية للعلاقات الاستعمارية بين أفريقيا وفرنسا، حيث رحب بتلك الخطوة، مؤكدا أن الفرنك الفرنسي كان ينظر إليه على أنه من بقايا العلاقات الاستعمارية بين فرنسا وأفريقيا.
جدير بالذكر أن المستعمرات الفرنسية في أفريقيا كانت قد أقرت العمل بـ"فرنك المستعمرات الفرنسية في أفريقيا" في 1945 وأصبح بعد ذلك "فرنك المجموعة المالية الأفريقية" بعد استقلال هذه المستعمرات، وما يزال العمل به جاريا، بيد أن هناك توجها قويا لإنهاء العمل بهذه العملة.
وجرت مفاوضات حول هذا التغيير استمرت ثمانية أشهر بين فرنسا والدول الثماني الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوجو) وهو لا يشمل حاليا الدول الست في وسط أفريقيا التي تستخدم الفرنك الأفريقي لكنها تشكل منطقة نقدية منفصلة.
وأسفرت تلك المفاوضات عن إقرار خطة إصلاح أعلنها رئيس ساحل العاج الحسن واتارا خلال زيارة ماكرون الأخيرة لبلاده حيث أكد أن 8 دول في غرب أفريقيا وفرنسا قررت القيام بإصلاح واسع للفرنك الأفريقي الذي سيصبح اسمه الإيكو وسيولد في يناير/كانون الثاني 2020.
أما أبرز ملامح إصلاح الفرنك الأفريقي فتتمثل في تغيير اسمه إلى الإيكو، المصارف المركزية لدول غرب أفريقيا لم تعد ملزمة إيداع نصف احتياطياتها من النقد لدى المصرف المركزي الفرنسي، انسحاب فرنسا من "الهيئات الحاكمة التي تتمثل فيها". في المقابل تم الإبقاء على السعر الثابت لليورو مقابل الفرنك الفرنسي (اليورو الواحد يعادل 655,95 فرنك أفريقي)، لكنه يمكن أن يتغير عندما يتم طرح الإيكو للتداول.
قمة "بو" المرتقبة.. اختبار الأسس الجديدة للعلاقات
دعا ماكرون في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري قادة دول مجموعة الساحل الخمس (النيجر وبوركينا فاسو ومالي وتشاد وموريتانيا) إلى قمة ستعقد في 13 يناير/كانون الثاني المقبل 2020 في مدينة بو بجنوب غرب فرنسا. ووفق الجانب الفرنسي، يتمثل الهدف المعلن من القمة في إعادة توضيح الإطار السياسي والاستراتيجي للتحركات الفرنسية لمواجهة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مع السعي لتحديد الأهداف العسكرية والسياسية والتنموية لعلاقات فرنسا بشركائها الأفريقيين بشكل أكثر وضوحا، لأنه بدون الانخراط السياسي لجميع الأطراف لا يمكن لفرنسا التحرك بنجاعة في الساحل.
وعلى الرغم من ذلك فقد أثارت دعوة ماكرون لعقد هذه القمة بعض الاستياء بين الأطراف المعنية، إذ اعتبرها البعض "استدعاء" من جانب باريس لقادة تلك الدول، وهو ما فسره كثيرون بصعود شعور متزايد بالعداء لفرنسا في المنطقة، تأكد ذلك التوتر مع تأكيدات الرئيس المالي إبراهيم أبوبكر كيتا عبر تصريحات إعلامية أن الدول المشاركة في مجموعة الساحل ترغب في شراكة محترمة يسودها التقدير والاحترام من كل الأطراف.
ومن ثم يرى كثيرون أن أحد أبرز أهداف زيارة ماكرون لساحل العاج والنيجر هو تعبيد الطريق لعقد قمة "بو" الشهر المقبل، لذا لم يكن من المستغرب أن تتضمن زيارة ماكرون تكريسا وإعلانا واضحين لموقفه الذي يعتبر الرافض للتاريخ الاستعماري لبلاده في أفريقيا، حيث اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحفي في أبيدجان 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري أنّ الاستعمار كان "خطأ جسيماً ارتكبته الجمهورية".
ودعا إلى فتح "صفحة جديدة" بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في القارة السمراء، لافتا إلى أنه لا حاجة لحركات المعارضة والمجموعات التي تندد بالوجود الفرنسي بوصفه وجودا استعماريا جديدا.
كما حذر في الوقت ذاته من احتمالية تأثير ذلك على عمل القوات الفرنسية في مواجهة الإرهاب، حيث أكد أنه "لا يمكنني القبول بإرسال جنودنا إلى دول حيث طلب (الوجود الفرنسي) لا يتم توجيهه بوضوح"، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة إشارة واضحة لموقفي كيتا رئيس مالي وكابوريه رئيس بوركينا فاسو.