أفريقيا تلبي النداء الروسي للتنمية والأمن
يزيد من أهمية القمة أنها الأولى من نوعها في تاريخ العلاقة بين موسكو والقارة السمراء منذ إرهاصاتها نهاية القرن التاسع عشر
حظيت القمة الروسية الأفريقية، التي انطلقت بمدينة سوتشي في 23 أكتوبر/تشرين الأول وعلى مدى يومين، باهتمام دولي وإقليمي واسع النطاق، فقد أكدت القمة أهمية القارة السمراء وكونها ساحة أساسية للتنافس الدولي والإقليمي، وذلك بالنظر إلى ما تذخر به من ثروات طبيعية ضخمة لم تُستغل بالكامل بعد، وآفاق واعدة للنمو.
ومن المعروف أن القارة الأفريقية تمتلك 30% من إجمالي الموارد الطبيعية في العالم، وأصبحت من أسرع المناطق نمواً، ويبلغ متوسط معدل النمو بها نحو 5%، ومن المتوقع أنه خلال السنوات القليلة المقبلة سوف تصبح من 8 إلى 10 اقتصادات أفريقية ضمن الأسرع نمواً في العالم، وبحلول عام 2050، يمكن أن تصبح أفريقيا واحدة من الاقتصادات الرئيسية في العالم.
كما تعد أفريقيا سوقا واسعا للتكنولوجيا بمختلف أنواعها، ولمدى غير محدود من السلع والمنتجات، حيث يتجاوز عدد سكانها مليار نسمة، غالبيتهم من الشباب، الأمر الذي يمنح القارة وفرة في الأيدي العاملة والطاقات المنتجة.
من ناحية أخرى، يمثل الثقل التصويتي للدول الأفريقية الـ(54) داخل الأمم المتحدة أهمية خاصة بالنسبة لروسيا، وذلك في وقت تحتدم فيه المواجهة مع الغرب، ويسعى الأخير للنيل من موسكو في المحافل الدولية، فعند التصويت لإدانة روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية عام 2014 امتنعت غالبية الدول الأفريقية عن التصويت، وكانت من بين الدول العشر التي صوّتت لصالح روسيا اثنتان من الدول الأفريقية، الأمر الذي عُد مؤشراً على تنامي التأثير الروسي في أفريقيا.
وفي المقابل، تحتاج الدول الأفريقية أيضاً إلى الفيتو الروسي لمواجهة الضغوطات الغربية، وعلى سبيل المثال استخدمت موسكو الفيتو على مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية على زيمبابوي عام 2008، وكان ذلك عاملاً في دفع التعاون بين البلدين.
يزيد من أهمية القمة أنها الأولى من نوعها في تاريخ العلاقة بين موسكو والقارة السمراء منذ إرهاصاتها نهاية القرن التاسع عشر، وعلى مدى ما يزيد على قرن.
وتعد القمة تتويجاً لخطوات عدة اتخذتها روسيا لتفعيل العلاقات مع القارة الأفريقية، خاصة دول جنوب الصحراء، وذلك منذ زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجنوب أفريقيا في سبتمبر 2006، والتي كانت الأولى لرئيس روسي إلى دولة أفريقية جنوب الصحراء، وعُدت تدشيناً لمرحلة جديدة من التطور الملحوظ في العلاقات الروسية الأفريقية بعد فترة من التدهور السريع خلال عقد التسعينيات.
أعقبت ذلك زيارات رئاسية متعددة، وفي عقيدة السياسة الخارجية الروسية التي أقرها الرئيس بوتين في 12 فبراير/شباط 2013 تم النص، وللمرة الأولى، على أن "روسيا سوف تدفع التفاعلات متعددة الأبعاد مع الدول الأفريقية على أساس ثنائي ومتعدد الأطراف، مع التركيز على تطوير الحوار السياسي، وتشجيع التجارة والتعاون الاقتصادي المفيد للطرفين، والمساهمة في تسوية ومنع الصراعات والأزمات الإقليمية في أفريقيا"، لتحدد بذلك المحاور الأساسية للتعاون بين الجانبين. وفي هذا السياق استأنفت موسكو علاقاتها الدبلوماسية مع العديد من الدول الأفريقية، وأصبح لها ممثل دائم لدى الاتحاد الأفريقي منذ عام 2006، وتحرص روسيا على المشاركة المنتظمة ورفيعة المستوى في القمم الأفريقية، والتواصل مع القادة الأفارقة على هامشها. وفي 16 ديسمبر 2011 تم إطلاق منتدى الأعمال "روسيا أفريقيا" بعقد دورته الأولى في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
كذلك، شهدت القمة إقبالا واسعا من جانب كل الدول الأفريقية على المشاركة، مع تمثيل عالي المستوى؛ حيث كان رؤساء غالبية الدول الأفريقية على رأس الوفود، إلى جانب أعداد كبيرة من الوزراء ورؤساء المنظمات الإقليمية ورجال المال والأعمال وممثلي كبرى الشركات الروسية والأفريقية، بإجمالي ما يزيد على ستة آلاف مشارك. وينطوي ذلك على دلالات عدة؛ أهمها ثقة دول القارة في روسيا كشريك آمن يعول عليه، يفي بتعهداته ويؤسس شراكات تنموية مستقرة.
وتنبع هذه الثقة من خبرة التعاون زمن الاتحاد السوفيتي، والسلوك الدولي الحالي لروسيا في أزمات مثل روسيا وفنزويلا، والتي وقفت فيها روسيا بقوة إلى جانب حلفائها في مواجهة الضغوط والأجندات الخارجية. كما أن روسيا ليس لها ماضٍ استعماري في القارة، بل على العكس، كان لروسيا السوفيتية دور أساسي في تحرير دول القارة من الاستعمار الغربي، وتقديم المساعدات العسكرية والتقنية للدول الأفريقية حديثة الاستقلال.
وفي الوقت الذي كانت واشنطن تعتبر فيه نيلسون مانديلا "إرهابيا"، كان الاتحاد السوفيتي يدعم المؤتمر الوطني الأفريقي قائد النضال ضد التمييز العنصري، والحزب الحاكم حالياً. ولعبت دورا بارزا في إعداد وتدريب القيادات الأفريقية في مختلف المجالات، أكثر من 50 ألفا من المدنيين والعسكريين، منهم رؤساء دول أفريقية سابقون وحاليون بينهم رئيس جنوب أفريقيا (جاكوب زوما)، ورئيس أنجولا (خوسيه دوس سانتوس)، ورئيس موزمبيق السابق (أرماندو جويبوزا) والحالي أيضاً، ويعطي هذا البعد التاريخي خصوصية لروسيا ويجعلها طرفاً دولياً أكثر قبولاً لدى دول القارة. فروسيا لم تبدأ علاقاتها بأفريقيا السمراء من الصفر، كبعض القوى الأخرى، وإنما من رصيد ضخم موروث من الحقبة السوفيتية.
تضاف إلى ما تقدم، القراءة الروسية الدقيقة لاحتياجات القارة الأفريقية بهدف بناء تعاون وثيق يخدم مصالح الطرفين، فالقمة ومنتدى الأعمال المصاحب لها تشملان أكثر من 30 جلسة عمل حول دفع الشراكة بين روسيا والقارة الأفريقية في إطار ثلاثة محاور على درجة عالية من الأهمية لدول القارة، تهدف إلى تحسين نوعية الحياة للمواطن الأفريقي، ودعم السيادة الاقتصادية للدول الأفريقية، مع الحفاظ على الهوية والخصوصية الثقافية والتقاليد والقيم المجتمعية لدولها. أولها: المحور التنموي ويتضمن ذلك مدى واسعا من المجالات تشمل البنية الأساسية مثل الإسكان وشبكات السكك الحديدية، والبنية التكنولوجية و"الرقمنة" لتطوير الأداء الحكومي وتوظيف الروبوتات والذكاء الاصطناعي في الصناعة والتعدين، والأهم التنمية البشرية من خلال تطوير قطاعي التعليم والصحة، وتشجيع الابتكار. ثانيها: الشراكات والمشروعات المشتركة، والاستثمار المشترك للقدرات الأفريقية في مجال الطاقة النووية والنفط والغاز، والتعدين والصناعة، لا سيما التحويلية وفائقة التكنولوجيا، مع دفع إنشاء المناطق الصناعية، والتنمية الزراعية. ثالثها: التعاون الأمني، ويتصدر هذا المحور الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، إلى جانب الأبعاد غير التقليدية مثل الأمن الحيوي في مواجهة الأوبئة العالمية، والأمن السيبراني وضمان السيادة الإلكترونية في عالم رقمي.
ومن المتوقع أن تسهم القمة في زيادة الحضور الروسي في أفريقيا في مختلف المجالات الاقتصادية والاستراتيجية والثقافية والإنسانية، تدعم هذا مجموعة من العوامل في مقدمتها انطلاق روسيا من مبادئ الشراكة العادلة القائمة على المصالح والمنافع المتبادلة، والاحترام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول القارة، وما تبديه موسكو من حرص على تحقيق الأمن بمفهومه الشامل، وضمان الاستقرار وتهدئة الصراعات والنزاعات الداخلية والبينية التي تموج بها القارة، ومنظورها التعاوني وليس التنافسي مع القوى الكبرى الأخرى في الاقتراب من القارة.
وقد أكد الرئيس بوتين، خلال القمة، أن تطوير العلاقات الروسية مع أفريقيا إحدى أولويات السياسة الخارجية الروسية في المرحلة المقبلة، وفي هذا السياق أعلن تدشين "منتدى الشراكة الروسية الأفريقية"، والذي ستُعقد في إطاره قمم دورية بالتناوب بين موسكو وإحدى العواصم الأفريقية، كما أكد سعي روسيا لمضاعفة التبادل التجاري مع أفريقيا والبالغ 20 مليار دولار عام 2018، وذلك في غضون سنوات قليلة مقبلة.
يضاف إلى ذلك أن حصاد القمة وما تم توقيعه من اتفاقات ومذكرات تفاهم تؤشر لقفزات في التعاون بين الجانبين، فقد تم توقيع اتفاقات على هامش القمة بين روسيا وعدد من الدول الأفريقية بقيمة 13 مليار دولار، منها اتفاقية لإنشاء آلية مالية لتحفيز وتسهيل العلاقات التجارية بين المصدرين الروس والشركاء الأفارقة، ومذكرة تفاهم بين اللجنة الاقتصادية التابعة للاتحاد الأوراسي الذي تقوده روسيا، ويضم عددا من دول الفضاء السوفيتي السابق ومفوضية الاتحاد الأفريقي، واتفاقية بين المركز الروسي للتصدير وبنك جمهورية غانا للاستيراد والتصدير لدعم الصادرات الروسية، ومذكرة تفاهم لمد أنابيب نقل النفط في الكونغو، كما تم الاتفاق على إنشاء صندوق استثماري مشترك بقيمة 5 مليارات دولار لدعم المشروعات المشتركة بين الجانبين.
وعلى صعيد آخر، تمت الإشارة إلى طلبات على الأسلحة الروسية من جانب دول أفريقية بقيمة 14 مليار دولار، فضلاً عن وجود 17 ألفا من الدارسين الأفارقة يتلقون تعليمهم في الجامعات والمعاهد الروسية، من المتوقع أن يتضاعف عددهم في ضوء عزم روسيا توطيد تعاونها العلمي والإنساني مع دول القارة.
لقد أطلقت القمة التعاون الروسي الأفريقي إلى آفاق غير مسبوقة في مختلف المجالات، يدعم ذلك إرادة سياسية جادة من الجانبين للمضي قدماً نحو تعاون استراتيجي في مختلف المجالات.
** د. نورهان الشيخ.. أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية