دلالات ومآلات تنامي نفوذ "داعش" في غرب أفريقيا

داعش يعمل على تنمية نفوذه بالغرب الأفريقي وتكوين شبكة واسعة من البؤر لإزاحة تنظيم القاعدة
على الرغم من أن غرب أفريقيا يعد حاضنة تقليدية لتنظيم القاعدة بتقاطعاته كافة، إلا أن ذلك لم يمنع "داعش" بعد انهيار جغرافيته المؤسسة في سوريا والعراق من التمدد في دولها وتحديداً في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو والكونغو وأفريقيا الوسطى ونيجيريا ليكون بداخله خاصرة للنمو تشهد توسعاً ملحوظاً وموازياً للساحل الأفريقي داخل الصحراء الكبرى، ويمتد من السودان شرقا إلى السنغال غربا، عبر ممرات ودروب صحراوية ربما تصل البحر الأحمر بشواطئ المحيط الأطلسي.
هذا التمدد يعد جغرافيا مستحدثة بدأ التنظيم في تكوين ملامحها منذ عام 2018، وكشفت عنها العديد من الدلائل التي تؤكد تناميا كبيرا لداعش داخل هذه الجغرافيا يدعمه في ذلك شبكة واسعة من الأنصار ممن تخلوا عن أفكار تنظيم قاعدة الجهاد وبايعوا داعش بعد دعوة أبوبكر البغدادي زعيم التنظيم لهم في تسجيل مصور تم بثه في أبريل/نيسان 2019 للانضمام إلى تنظيمه المنسلخ عن قاعدته الأم التي يحاول محاكاة أساليبها القديمة التي ارتكزت على "الخلايا" وتخليق دولة افتراضية تكون ركيزتها الأساسية قائمة على "البيعات" لداعش.
ويعمل داعش في تنمية نفوذه بالغرب الأفريقي على إزاحة تنظيم القاعدة من تلك المناطق وتكوين شبكة واسعة من البؤر تمتد بطول وعرض أفريقيا الغربية معتمدا ًعلى عدد من العوامل الجاذبة لنموه ومتفادياً العناصر الطاردة له، ما قد يشكل في المستقبل حاضنة مأمونة وربما تكون مقراً جديداً لـ"دولته" المزعومة أو منصة انطلاق لـ"بيعات" أكثر دموية وعنفاً من بيعاته السابقة.
أولا: الصراع القاعدي الداعشي على بنية الجماعات الإرهابية
تاريخياً سيطر تنظيم القاعدة على المشهد في منطقة الغرب الأفريقي، ولكن عقب ظهور داعش في عام 2014 استطاع إحداث شق واضح في صفوف تنظيم القاعدة بعد أن نقل حلم "الخلافة" المزعومة من مجرد فكرة مرتبطة بالتمكين إلى واقع معيش، وهو ما خلق حالة من التنافس على مناطق النفوذ الرخوة والصلبة لكلاهما، ومع تطور الأحداث الإقليمية وموجة الحرب على الإرهاب حدث ما يمكن تسميته اختبار "الولاء العملي" لجميع جماعات "السلفية الجهادية" في العالم بما فيها منطقة غرب أفريقيا لتتحول مع الوقت إلى بؤرة صراع ساخنة بين التنظيمين على البنية الرخوة المنتشرة داخل دولها.
وتكشف خريطة المبايعات عن أن المنطقة شهدت بين أعوام 2014 و2019 سلسلة من التطورات تدل في مجملها على أن تنظيمي داعش والقاعدة يخوضان حرب مواقع للسيطرة على القارة الأفريقية انطلاقا من غرب أفريقيا، وخاضت الجماعات المتطرفة المسلحة اختبار الاختيار بين البقاء في حاضنتها الأم "القاعدة" أو الخروج منها لحاضنة أوسع وهي تنظيم داعش، وشيئا فشيئا تحولت المنطقة إلى مسرح للتنافس المحموم، الذي يشهد تصاعدًا ملحوظًا مع عدم اعتراف أيٍّ من الطرفين بشرعية الطرف الآخر ومحاولة التفوق عليه.
واستطاع تنظيم القاعدة في بداية التنافس الاحتفاظ بولاء التنظيمات المسلحة الأبرز في غرب أفريقيا عندما أعلن على لسان زعيمه في بلاد المغرب الإسلامي عبدالمالك دروكدال أن جماعة "المرابطون" انضمت إلى صفوفه، وأن الجزائري مختار بلمختار زعيم الجماعة جدد مبايعته للقاعدة في مايو/أيار 2015، ونفى ولاءه لتنظيم داعش، وأنه سيكون سيفا واحدا مع القاعدة لنحر عدوهم الأول فرنسا وعملائها في المنطقة، هذه البيعة تضاف إلى بيعات جماعتي أنصار الشريعة في ليبيا وتونس، وجماعة المرابطين في شمال مالي وجنوب ليبيا.
لكن في المقابل استطاع داعش إحداث اختراقات ممنهجة داخل العديد من المجموعات الإرهابية التي كانت تدين من قبل بالولاء للقاعدة، والتي سرعان ما أعلنت ولاءها له، وبايعت البغدادي وعلى رأسها "جند الخلافة" بالجزائر وما يقارب 1354 مغربيًّا كانوا عناصر بـقاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي وعناصر من الجماعة الليبية المقاتلة وجماعة "المرابطون" بزعامة أبو الوليد الصحراوي، بالإضافة إلى تنظيم "بوكو حرام" وعناصر من جماعة "عقبة بن نافع" في تونس والتي يتركز عناصرها في جبل الشعانبي، كما استطاع تنظيم داعش التمدد في دول غرب أفريقية جديدة بداية من عام 2018 حتى الآن، وعلى رأسها الكونغو وبوركينا فاسو ووسط أفريقيا.
وعلى الرغم من أن الديناميكية المتسارعة لنشاطات داعش في الشرق الأوسط انحسرت، إلا أن ذلك شكل حافزًا لولاياته في غرب أفريقيا لزيادة ديناميكيتها وحيويتها، عبر تكثيف أعمال العنف وتطويرها وتنويعها، ويساعدها على ذلك حالة الهشاشة في المنظومات الأمنية والإدارية والسياسية والاجتماعية في العديد من دول غرب القارة، ما يُسهِّل من مهامه وقدرته على التحرك واستهداف المواقع الأكثر حساسية وخطورة، وهو ما يعزز من تنامي الصراعَ بين تنظيمي القاعدة وداعش ويحولها إلى ساحة مفتوحة لعنف ستمتد شراراته لكثير من الدول.
ثانيا: العوامل المحفزة على الانتشار والنمو الداعشي
على الرغم من أن منطقة الغرب الأفريقي لم تكن جاذبة بشكل عام لأفكار تنظيم داعش، وكانت دائما ما تشهد حالة تدافع نحو المشروع الراديكالي القاعدي، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى منطقة جذب واعدة لداعش بفضل العديد من المحفزات التي ساعدت على وجوده ونموه والتي تتمثل في العناصر التالية:
1- قيام داعش باستخدام نهج مغاير تمامًا لنهج القاعدة وجماعة بوكو حرام، والذي ركز على استهداف المدنيين والمنظمات غير الحكومية، والمدارس والأسواق والاتجاه إلى استراتيجية تكتيكية على مهاجمة المراكز الأمنية ومعسكرات الجيوش لاستنزافها والتحجيم من قدرتها في السيطرة على الأرض، فجماعة بوكو حرام الداعشية وحدها التي تعد جزءا من "ولاية غرب أفريقيا" تسيطر على ما يقارب من 20% من الأراضي النيجيرية، وهاجمت 12 قاعدة عسكرية، وقتلت مئات الجنود، واستولت على مخزونات ضخمة من الأسلحة من الجيش النيجيري.
2- استغل داعش الضعف الذي تعاني منه المؤسسات الأمنية والعسكرية بالغرب الأفريقي، الذي قلل من قدراتها على إحكام السيطرة على حدود دولها، وهو ما استفاد منه التنظيم في تحويل هذه الحدود إلى معابر لتجارة السلاح والاستفادة من تخومها في تخزينه، ما سهل من حركة عناصر داعش وحصوله على السلاح وتنامي قدرته على استهداف المؤسسات الأمنية والعسكرية بالغرب الأفريقي.
3- ساعدت سمعة تنظيم "داعش" الوحشية على جذب المئات من المتطرفين ذوي النزعة الدموية، والذين لا تجذبهم طريقة القاعدة في التأصيل للعمل الإرهابي بينما داعش تتجاوزه بشكل لا محدود.
4- محاولات تنظيم داعش التي لا تتوقف عن استخدام قوته الإعلامية، بنشر أفلام دعائية تساعد في زيادة انتشاره في غرب أفريقيا، وهو الأمر الذي حقق نجاحات كبيرة في الجنوب الليبي وفي وسط الصحراء الكبرى حول بيحرة تشاد وفي شمال نيجريا، حيث سجّلت المجموعات التي بايعت التنظيم تزايداً سريعاً؛ إذ تضاعف عددها 10 مرات "من 200 إلى 2000 عنصر خلال عام 2015، كما تضاعف هذا العدد إلى 4000 مقاتل في 2018، وهو ما تكشف عنه إصدارات التنظيم الأخيرة.
5- تحالف داعش مع عصابات الجريمة المنظمة المنتشرة في غرب أفريقيا، التي توفر لها الملاذات الآمنة للتدريب والإقامة مقابل توفير الحماية لها أثناء عملياتها الخاصة بتهريب السلع والمخدرات والأسلحة والبشر.
6- ضعف وهشاشة الحياة السياسية بدول الغرب الأفريقي، والتي ساعدت على انتشار الفساد وتهريب السلاح، وعجز الحكومات عن فرض سلطتها خارج المدن الرئيسية تشكل عوامل محفزة لنمو وتمدد وانتشار داعش، والتي يستخدمها كثغرات للتنقل بحرية بين الدول وفي عقد تحالفات مع الجماعات الجهادية المحلية.
7- يشكل الفقر وندرة فرص العمل وانتشار جرائم الاتِّجار بالبشر والمخدرات والنزاعات القبلية بيئة خصبة لاجتذاب وتجنيد شباب تلك الدول داخل داعش ليس فقط إيمانًا بأيديولوجيتهما وإنما أيضًا بحثاً عن مصدر للدخل.
8- تمثل الصحراء الكبرى مجالا واسعا لإرهاب داعش بسبب تضاريسها واتساع رقعتها البالغة 9 ملايين كيلومتر مربع، وحدودها الواسعة التي يطل عليها عدد من بلدان شمال وغرب القارة الأفريقية.
وبالنظر إلى عوامل الجذب المتنامية لصالح تنظيم داعش نجد أن منطقة الغرب الأفريقي تعد نموذجا مثاليا لإعادة التموضع الداعشي، وأنها ستشهد خلال السنوات المقبلة حالة من التدافع نحو المشروع الراديكالي الداعشي، في مقابل انحسار للمشروع الراديكالي القاعدي.
ثالثا: مآلات الانتشار وفرص البقاء الداعشية
تشكل مآلات الانتشار أهم العناصر التي يعول عليها تنظيم داعش لاستمرار بقائه في الغرب الأفريقي في ظل صراع وجودي مع تنظيم القاعدة، والذي خلق لداعش العديد من العوامل الطاردة له والتي لا تزال قائمة على الرغم من التموضع الداعشي المتنامي، فقد استطاعت القاعدة على مدار عقود التجذر في المجتمعات المحلية الرئيسة في الغرب الأفريقي، وخاصة في مالي والنيجر ونيجيريا وتشاد وليبيا وتونس والمغرب وموريتانيا وبوركينافاسو، وسيطرت خلال العشرين عاما الماضية على أهم ممرات ومعابر التهريب في المنطقة الممتدة من السودان شرقاً حتى السنغال على ساحل المحيط الأطلسي غرباً، وهو ما يعيق عمل مجموعات داعش بشكل دائم ويدفعها إلى الدخول في اشتباكات دموية مع القاعدة تستنزف قدراتها.
في المقابل يعمل تنظيم داعش على استمرار بقائه من خلال توسيع شبكته المالية بالسيطرة على مزيد من طرق التجارة وفرض الضرائب على سكان المناطق الزراعية المسيطر عليها، وتقديم المراعي الآمنة للرعاة مقابل المال، والحصول على "فِدى" من تحرير الرهائن وإتاوات من تهريب السلع والمخدرات والأسلحة وتجارة البشر، واستطاع من خلال هذه الشبكة توسيع انتشاره في شمالي مالي إلى شمالي النيجر والتوجه جنوبا إلى حدود بوركينا فاسو.
ويعمل داعش أيضا على تطوير قدراتها القتالية من خلال جلب مزيد من المقاتلين وتوفير مراكز تدريب لهم يتم فيها استحداث تكتيكات جديدة اعتماداً على مدربين ذوي كفاءة، كما أظهرت مقاطع الفيديو الجديدة للتنظيم استخدامه لأسلحة قاتلة مثل القنابل المدرعة والمحمولة بالمركبات واستخدم طائرات بدون طيار للتجسس على الجيوش، كما يستخدم مقاتلوه في بعض الأحيان الخيل لتفادي اكتشافهم بواسطة طائرات المراقبة وصور الأقمار الصناعية التي تتبعهم، كما يتجنب مقاتلو داعش المراكز السكانية تفادياً للطائرات الحربية.
كما عمل التنظيم على استراتيجية جديدة تستهدف ضرب معنويات الجيوش من خلال الهجوم بشكل منظم على عدد من الوحدات العسكرية الأفضل تجهيزًا وتحصيناً، والتي كان آخرها الهجوم على القاعدة العسكرية النيجيرية شديدة التحصين في بلدة باجا وعلى قاعدة بحرية على بحيرة تشاد وكاناً مقراً لمئات الجنود والأسلحة الأكثر تطورًا التي تحتفظ بها نيجيريا وشركاؤها من تشاد والكاميرون والنيجر، وقد بث التنظيم مقاطع فيديو تظهر صورا دموية للجنود القتلى وإحراق زوارق القاعدة البحرية المستوردة من ألمانيا، مع مخازن للأسلحة داخل القاعدة العسكرية.
وبذلك يكون تنظيم داعش قد وسع من فرص بقائه في غرب أفريقيا خاصة مع الفشل الكبير، الذي منيت به القوات الفرنسية بعد عجزها في السيطرة على تمدده ومنع انتشاره وفشل الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة في الحد من شبكة تحالفاته مع قبائل الصحراء الكبرى.
من خلال ما سبق يمكن التوصل إلى عدد من الاستخلاصات حول دلالات ومآلات تنامي نفوذ "داعش" في أفريقيا الغربية تتمثل في النقاط التالية:
1- إن حالة الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أعطت لتنظيم داعش الفرصة للتغلغل في بلدان الغرب الأفريقي وسمحت بتمدده وانتشاره بل وعقده لتحالفات مع الجماعات الإرهابية المحلية بتلك الدول.
2- تشهد منطقة غرب أفريقيا ما يمكن اعتباره صراعا على مواقع السيطرة بين تنظيم القاعدة ووكلائه المحليين من جهة وداعش ووكلائه أفريقياً.
3- يسعى داعش في غرب أفريقيا إلى تخليق دولة افتراضية تكون ركيزتها الأساسية قائمة على "البيعات" لدولته المزعومة كبديل عن نهج "الخلايا" الذي انتهجته القاعدة، والذي يثبت فشله بعد تفكيك القوى الأمنية للعديد منها.
4- يعد انتشار داعش في غرب أفريقيا السيناريو الأكثر عنفا ودموية وخطراً على المصالح الغربية وربما يشكل في المستقبل أحد الـ"سيناريوهات المريعة" للغرب كما حدث في سبتمبر/أيلول 2001.
5- يبدو أن نمو داعش في غرب أفريقيا قد حسم صراع التموقع بينه وبين القاعدة، وهو الأمر الذي ربما ينتقل إلى مواقع جديدة للقاعدة في ظل حالة الاستقطاب بين الطرفين ليس في أفريقيا فحسب بل في آسيا أيضا معقل القاعدة التاريخي.
6- تعد منطقة الغرب الأفريقي نموذجا مثاليا لإعادة التموضع الداعشي، وربما تشهد خلال السنوات المقبلة حالة من التدافع نحو المشروع الراديكالي الداعشي، وانحسار للمشروع الراديكالي القاعدي.