ذهب أفريقيا.. ممالك المافيا والفساد والفقر
عرفت القارة السمراء تاريخيا بثرائها فيما يتعلق بالمعادن النفيسة والنادرة، لكنها عرفت أيضا بعجزها عن استغلال مواردها في سبل التنمية.
وانتهت منذ أيام القمة الروسية-الأفريقية ليتجدد مرة أخرى الاهتمام العالمي بالقارة السمراء، لكن لماذا أصبحت قارة أفريقيا وجهة اهتمام عالمي معاصر بشكل كبير لم يحدث منذ فترة؟ فالقارة ليست غنية يُنتظَرُ دعم اقتصادي منها في وسط هذه الحالة المتفاقمة من الاحتقان والاستقطاب العالمي.
كما أن أفريقيا ليست متقدمة على الصعيد العسكري، فلا يتخوف دعمها لأي من الأطراف.. فلماذا تعد أفريقيا مهمة؟
عرفت القارة السمراء تاريخيا بثرائها فيما يتعلق بالمعادن النفيسة والنادرة.. لكنها عرفت أيضا بحالة تكاد تكون مزمنة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي تبقي عليها عجزها عن استغلال مواردها في سبل التنمية.
من أهم هذه المعادن هو الذهب، ويفترض العديد من المحللين أنه يشهد بالفعل تهافتا من قبل القوى الكبرى للسيطرة على كميات منه بقصد الإضرار -على المدى الطويل- بهيمنة الدولار عالميا.
ومنذ فترة تقوم البنوك المركزية، خاصة الروسية والصينية، بشراء الذهب بأسرع وتيرة منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وذلك مع تحرك الدول لتنويع احتياطاتها بعيداً عن الدولار، وصولاً للاستغناء عنه بشكل كامل ونهائي، ومن ثم تخزين المعدن الأصفر النفيس لأغراض استراتيجية.
وفي هذا السياق، تكثف شركات تعدين الذهب الصينية نشاطاتها لاستخراج المعدن الأصفر النفيس، وتقبل على شراء مؤسسات صناعية أخرى للتعدين حول العالم بنشاط ملحوظ، وتعمق لذلك استثماراتها وتوسعها في قارتين، أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
احتياطيات الذهب في أفريقيا
تنتشر مناجم الذهب في أفريقيا بين الدول، فيما تحصي التحليلات تركيز المعدن الأصفر بشكل أكبر في منطقة الشمال الأفريقي، وهيمنت الجزائر على قائمة أكبر دول أفريقيا التي تملك احتياطيا من الذهب، حيث تقدر كميتها بـ174 طنا، وفقا لموقع "ستاتيستا" الألماني. وجاءت جنوب أفريقيا بكمية ١٢٥ طنا، ثم ليبيا ١١٧ طنا، ثم مصر 80,73 طن، ثم المغرب 22,12 طن.
ووفقا للبرنامج البيئي التابع للأمم المتحدة، فإن القارة تمتلك 40% من ذهب العالم، ووفقا لموقع ستاتيستا، بلغ إجمالي إنتاج مناجم الذهب في أفريقيا 680.3 طن متري في عام 2021، ويمثل هذا الرقم زيادة بنسبة 0.5% تقريبًا مقارنة بالعام السابق.
ويتزايد إنتاج الذهب في جميع أنحاء العالم بشكل عام منذ عام 2010، حيث وصل إلى ما يقدر بـ3000 طن متري في عام 2022. وتعد أفريقيا ثالث أكبر قارة منتجة للذهب في العالم، ولديها أنشطة تعدين الذهب في أكثر من 21 دولة.
وأنتجت غانا، إحدى الدول الرائدة في العالم في إنتاج الذهب، وثاني أكبر منتج في أفريقيا، ما يقرب من 90 طنًا متريًا من الذهب في عام 2022، ومع ذلك تم اكتشاف مناجم الذهب الأولى في أفريقيا في جنوب أفريقيا في عام 1886.
لكن استخراج الذهب في القارة السمراء ليس بالأمر اليسير، فأنشطة التعدين في بعض المناطق تبدو نكبة على الشعوب وليس نعمة لها، ففي منطقة غرب أفريقيا بات الأمر معقدا ولا يرتقب أن يتم تنظيمه في وقت قريب، بل يتوقع أن يشهد القطاع مزيدا من الفوضى، بل استقطاب أطراف أجنبية للحصول على حصة لها من هـذا المعدن النفيس.
معدن الدم
وفي حين يشار إلى الذهب غالبا على أنه "معدن الدم" نظرا لدوره في تمويل النزاعات، فإن العلاقة بين قطاع الذهب وعدم الاستقرار والعنف أكثر دقة بكثير في منطقة غرب أفريقيا.
هذا ما أوضحه تقرير بعنوان "ما بعد الدم.. الذهب والصراع والجريمة في غرب أفريقيا"، والذي نشرته المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
وقال التقرير إن واقع العلاقات بين الذهب والنزاع والجريمة يتحدى الرواية المبسطة لـ"معادن الدم" المستخدمة في تمويل الصراع، وبدلاً من ذلك يرتبط الذهب ارتباطا وثيقا بالبقاء والمال والسلطة والإجرام.
ووفقا للتقرير، فقد تداخلت النخب السياسية مع الأطراف المسلحة والأهالي والمستثمرين الأجانب في شبكة معقدة من التفاعلات التي أذكت هذه الصراعات في منطقة غرب أفريقيا ودفعتها لأفق غامضة ومستقبل محفوف بالمخاطر والتهديدات، لا تقتصر فقط على هذه المناطق بل يمكن أن تمتد لمناطق أخرى.
التعدين الأهلي والعشوائي وغير الرسمي
ووفقا للتقرير، ينشط التعدين الأهلي والعشوائي وغير الرسمي بقطاع الذهب في دول غرب أفريقيا، ويرجع ذلك جزئيا إلى العوائق الكبيرة التي تحول دون الدخول إلى القطاع الرسمي، ونقص الدعم لعمال المناجم غير الرسميين وتجار الذهب، نتيجة لذلك يمكن للنخب الفاسدة والإجرامية في المجالات السياسية والتجارية أن تستحوذ على تدفقات الذهب غير المشروعة، مما يساهم بشكل أكبر في إحباط المجتمع وتقويض شرعية الجهات الحكومية.
وقد أدت محاولات متكررة من جانب الحكومات في جميع أنحاء غرب أفريقيا للقضاء على التعدين غير المشروع، إلى زيادة ذلك التعدين ودفع تجارة الذهب إلى المجال غير المشروع أكثر وأكثر، وتستفيد الجهات الإجرامية من التداعيات عندما يكون لدى عمال المناجم والتجار وصول محدود إلى القطاع الرسمي، أو خيارات قانونية قليلة لبيع إنتاج الذهب وتأمين الدعم المالي.
دور متزايد للجماعات المسلحة والمتطرفة
وأدى الفساد وسياسات الدولة المتشددة في مجال التعدين، بحسب التقرير، والقمع ضد التعدين العشوائي إلى زيادة الهشاشة في جميع أنحاء غرب أفريقيا في الأبعاد السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والأمنية.
وتخلق هذه الهشاشة بيئات يتم استغلالها بسهولة من قبل شبكات الجريمة المنظمة والجماعات المسلحة من غير الدول، وفي حين أن الشبكات الإجرامية قد توفر التمويل وسلاسل التوريد اللازمة للتعدين في المجتمعات الريفية بشكل أكبر، فإن وجودها في نهاية المطاف يقوض الحوكمة ويسهم في زيادة الهشاشة الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى انعدام الأمن وتزايد الصراع.
وقد تستهدف الجماعات المسلحة قطاع الذهب من خلال فرض ضرائب على أنشطة التعدين والتجارة أو مطالبة عمال المناجم بالدفع مقابل توفير الأمن، أو إنشاء نقاط تفتيش على طول الطرق المؤدية إلى مواقع المناجم والمراكز التجارية لتحصيل المدفوعات، كما يحث أن بعض أعضاء الجماعات المسلحة ينخرطوا بشكل مباشر في تعدين الذهب، إما لتحقيق مكاسب مالية شخصية أو لصالح الجماعة.
وفي بعض الأحيان، كان النهج المتشدد لحكومات غرب أفريقيا تجاه نشاط التعدين غير المرخص أثاره السياسية المعقدة، فمع استخدام السلطات القوة لإغلاق مواقع تعدين الذهب الحرفي والضيق النطاق يزداد لجوء الأهالي الى الجماعات المسلحة أو المتطرفة، ومن ثم تميل محاولات القضاء على تعدين الذهب الحرفي والضيق النطاق، إلى تقويض شرعية السلطات المحلية والوطنية في أعين السكان المحليين.
فمن خلال حرمان المجتمعات من سبل عيشها وزيادة الهشاشة الاقتصادية تغذي الدول انعدام الثقة بالحكومة وتزيد من حدة التوترات بين السكان المحليين والسلطات الوطنية.
ويمكن للجماعات المسلحة غير الحكومية الاستفادة من هذه الديناميكية، وبناء شرعيتها الخاصة بين شرائح السكان من خلال استعادة الوصول إلى رواسب الذهب وحماية نشاط التعدين. وغالًبا ما يقف عمال المناجم إلى جانب أولئك الذين يمتلكون السلطة على المستوى المحلي ويسمحون بالوصول إلى مناجم الذهب، والتي يمكن أن تكون في بعض الأحيان جماعات إجرامية.
وفي منتصف المسافة بين الهشاشة المتزايدة والصراع مجموعات مليشيات من الأهالي مهمتها الدفاع عن النفس والهوية المحلية، والتي يمكن أن تعمل بالتعاون مع أو منافسة مع الدولة. وفي غرب أفريقيا، تقع هذه المجموعات على نطاق يتراوح من المؤسسات الأمنية الهجينة إلى مضارب الحماية على غرار المافيا التي يديرها "رواد الأعمال العنيفون". وهناك تداخل كبير بين هذه المجموعات وقطاع الذهب، مع وجود العديد من المجموعات التي توفر الأمن في مواقع مناجم الذهب وعلى طول طرق النقل.
أهمية محلية
وتتعقد الأهمية المحلية لقطاع الذهب بسبب حقيقة أنه محرك اقتصادي رئيسي ومصدر مهم لسبل العيش في جميع أنحاء غرب أفريقيا. واجتذب التعدين غير الرسمي مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، من المجتمعات المحلية التي تحتاج إلى وسيلة للبقاء، إلى الأفراد الباحثين عن المزيد من فرص العمل المربحة، إلى رجال الأعمال الأثرياء نسبًيا والمستثمرين الأجانب الذين يتطلعون إلى الربح من التعدين شبه الصناعي.
ومع زيادة الضغوط البيئية على الزراعة والثروة الحيوانية من تغير المناخ، من المرجح أن تزداد قيمة قطاع الذهب كشبكة أمان اقتصادية.
ويوفر تعدين الذهب غير الرسمي والخدمات المرتبطة به مصدرا للدخل، وربما الأهم من ذلك توفير الأمل للأشخاص النازحين داخلًيا الذين لديهم القليل من الخيارات الأخرى للبقاء على قيد الحياة.
وعلى سبيل المثال، منطقة ليبتاكو جورما، منطقة تغطي منطقة الحدود الثلاثية لمالي وبوركينا فاسو والنيجر، هي منطقة منتجة للذهب وأدت المستويات العالية من الهشاشة فيها، والتي تُعزى جزئًيا إلى الفساد وضعف التنمية الاقتصادية والإحباط من الدولة وتفاقم الصراعات المجتمعية، إلى خلق وضع مثالي للجماعات المتطرفة لتجنيد أعضاء جدد. واستهدفت هذه الجماعات نفسها قطاع الذهب، ودرت موارد مالية كبيرة من خلال فرض ضرائب على تعدين الذهب وتجارته. وفي هذا السياق يبدو تمويل الصراع بأنه جزء من سلسلة أطول من العوامل التي تساهم في زيادة الهشاشة في المنطقة.
زيادة في الإنتاج
أسهم في إذكاء الصراعات حول مناجم الذهب في غرب أفريقيا حقيقة حدوث زيادة هائلة في إنتاج الذهب وتعدين الذهب ضيق النطاق عبر مالي وبوركينا فاسو والنيجر على مدى العقدين الماضيين.
وتحتوي المنطقة على رواسب كبيرة من الذهب، والتي تم تعدينها بواسطة تعدين الذهب الحرفي والضيق النطاق وعمليات التعدين الصناعي منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومنذ عام 2016، أصبحت Liptako-Gourma أيضا منطقة نزاع رئيسية ونشاط إجرامي. كما تطورت منطقة كيدال في شمال مالي أيًضا إلى منطقة مهمة لإنتاج الذهب، وأصبحت نقطة اشتعال من انعدام الأمن والعنف. وفي مالي، كان تعدين الذهب تاريخياً يتركز في جنوب البلاد. فمنطقة كايس، المتاخمة لغينيا، هي منطقة إنتاج الذهب الرئيسية ، لكن شهدت منطقة سيكاسو ، الواقعة على الحدود مع بوركينا فاسو ، زيادة في إنتاج الذهب في السنوات الأخيرة وهي حالًيا ثاني أكبر منطقة منتجة للذهب في البلاد . كما شهدت شمال مالي أيضا اندفاعا خا صا بها منذ أن بدأ التنقيب عن الذهب في شمال كيدال في عام 2016. ومنذ ذلك الحين، شهدت منطقتا كيدال وغاو زيادة هائلة في تعدين الذهب.
الفساد في قطاع الذهب
ويمكن رؤية الفساد المستشري الذي يشمل مجموعة واسعة من الفاعلين السياسيين في أسواق الذهب في جميع أنحاء غرب أفريقيا، بدءا من الفساد الصغير إلى الفساد الكبير. فبسبب الربحية العالية للذهب تخضع هياكل الحماية بشكل منتظم لسيطرة النخب السياسية والتجارية ذات الروابط السياسية القوية. ويحبط الفساد الجهود المبذولة لإنشاء ممارسات تعدين وتجارة أكثر مسؤولية للذهب، بينما يساهم في زيادة انعدام الأمن والعنف حيث يستغل الفاعلون في الصراع الحكم الضعيف والاستياء المدني من الدولة.
وأحد الأشكال الشائعة للفساد الصغير هو المسؤولون الحكوميون، مثل أفراد إنفاذ القانون والعسكريين، الذين يوفرون الحماية أو الوصول إلى رواسب الذهب مقابل رسوم. على سبيل المثال، في مالي ، يجب أن تكون بعض مواقع تعدين الذهب غير عاملة خلال موسم الأمطار. ومع ذلك ، وبتواطؤ قوات الدفاع والأمن ، فإن هذه المواقع مفتوحة لعمال مناجم الذهب مع خيار حماية مواقع المناجم مقابل رسوم إضافية.
كما أن الفساد رفيع المستوى في التجارة الإقليمية ومراكز التصدير يمّكن شبكات الجريمة المنظمة من تهريب الذهب من القارة بشكل جماعي. ولعبت شركات تعدين الذهب الصناعية دورا، مع اتهامات بأنها متورطة في الفساد والتهرب الضريبي. على سبيل المثال، في عام 2018 دفعت شركة التعدين الكندية Kinross Gold Corp مبلغ 950 ألف دولار أمريكي لتسوية التهم المدنية المتعلقة بتهم رشوة المسؤولين في غانا وموريتانيا.
وكشفت التحقيقات التي أجرتها الحكومة البوركينية والصحفيون الاستقصائيون أن منجما صناعيا واحدا على الأقل استخدم تقنيات محاسبية غير سليمة والاحتيال المالي لتقليل دخله الخاضع للضريبة، مع عدم دفع ضرائب لعدة سنوات. وتم تغريم شركة التعدين جلينكور بما يزيد عن 1.1 مليار دولار أمريكي من قبل حكومة الولايات المتحدة عندما أقرت بالذنب في أعمال الرشوة وأسعار السلع. التلاعب، بما في ذلك في غرب أفريقيا.
aXA6IDE4LjIyNC43MC4xMSA= جزيرة ام اند امز