مازال الغموض يكتنف انفجار مرفأ بيروت وما أعقبه من تداعيات. فهل التأخر في إعلان ما وصل إليه التحقيق له أسبابه أم شكل من المماطلة
إذا كان الانفجار المروع الذي أصاب مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس 2020 يُمثِّل كارثة بكل المعايير، فإن الكارثة الأكبر هي ما تلى ذلك من تطورات في الأسابيع التسعة التي أعقبتها والتي كشفت عن عجز وتفكك أجهزة الدولة اللبنانية وقصورها في التعامل مع آثارها الفاجعة. رافق ذلك عدم الإعلان عن النتائج الأولية للتحقيقات الخاصة بالمسئولية عن التفجير، وكذلك عدم رغبة أحزاب السلطة في إجراء الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تحول دون انهيار كيان الدولة.
لقد تكشَّفت أخبار ووقائع تشير إلى حجم القصور والفساد وسوء الإدارة الذي شهده مرفأ بيروت. فالمرفأ يُدار من خلال لجنة حكومية تتكون على أساس طائفي، رئيسها سني وستة أعضاء يمثلون الطوائف الرئيسية الأخرى، وامتدت المحاصصة الطائفية لتشمل العاملين في إدارة معاينة البضائع بجمارك المرفأ فقد كانوا يُعيَّنون كممثلين لأحزاب طائفية ولا يُمكن نقلهم من هذه الإدارة بدون موافقتها. وشهد المرفأ حالات عديدة من التهريب من خلال "الممر العسكري" أو"ممر المقاومة" الذي تمر فيه السلع بدون تفتيش أو جمارك.
وشهد أيضاً حالات من التهرب الجمركي وتخفيض الرسوم المفروضة على البضائع مقابل رشاوى، أو باستخدام أوراق تشير إلى تبعية السلع المستوردة لإحدى الجمعيات الخيرية التي لا وجود لها، ويدل على هذا التقصير والفساد في المرفأ أن جهاز الأشعة السينية الوحيد بالمرفأ، والذي يكشف عن المواد والسلع المخبأة، معطل من إبريل 2019. وقدَّر أحد الباحثين قيمة ما يتم تهريبه بأكثر من مليار دولار سنوياً.
وترتب على ذلك أنه في عام 2019 فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على وفيق صفا أحد قيادات حزب الله بتهمة استخدام الموانئ والمعابر الحدودية للتهريب لصالح الحزب، وحدَّد البيان على وجه الخصوص مرفأ بيروت.
ومن مظاهر فساد المرفأ أيضاً المزادات الوهمية التي عُقدت لبيع السلع التي تركها أصحابها في المرفأ لسبب أو لآخر. وحسب تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية، فإن إيرادات المرفأ في السنوات الأخيرة بلغت 220 مليون دولار أمريكي، ذهب منها 60 مليون فقط إلى خزينة الدولة، أما الباقي فقد تم استقطاعه للرواتب والأجور وتطوير المرفأ!
إن ما تقدم يشير إلى أن الانفجار في مرفأ بيروت لم يكن مجرد تقصير أو انحراف لأشخاص بل نتيجة لأوضاع مؤسسية ولمصالح سياسية ومالية للطبقة المهيمنة في لبنان، أسفر عنها استمرار تخزين كمية هائلة من نترات الأمونيوم في الميناء قُرابة 6 سنوات. يؤكد ذلك أنه عندما صدرت قرارات بإيقاف 25 من العاملين الحاليين والسابقين في المرفأ من مختلف الطوائف، خرجت مظاهرات تندد بالقرارات وتدافع عن الموقوفين، فقد اعتبر المتظاهرون هؤلاء الموقوفين ممثلون لطوائفهم أكثر من اعتبارهم مجرد موظفين عموميين. ويؤكده أيضاً شهادة أشرف ريفي، وزير العدل اللبناني الأسبق، أمام قاضي التحقيق التي ورد فيها أن حزب الله "يمد يده" إلى مال الدولة، وأن التحقيق في الانفجار له جانبين، الإهمال والإرهاب، وأن المحاسبة ينبغي أن تبدأ من رئيس الجمهورية.
واستغرق الأمر شهرين لكي تصدر جهات التحقيق مذكرتيْ توقيف غيابيتين بحق مالك السفينة التي نقلت شحنة المادة المتفجرة إلى المرفأ وقبطانها وكلاهما روسي الجنسية وذلك للإدلاء بأقوالهما، وأن تطلب من الإنتربول البحث عنهما وإحضارهما إلى لبنان. هذا علماً بأن ربان السفينة أدلى بتصريحاتٍ كان منها حديث قُرابة ساعة مع قناة روسيا اليوم في أعقاب الانفجار مباشرة، كشف فيها عن ملابسات وصول الشحنة المتفجرة إلى المرفأ، وكنت أتصور أن هذا الربان سيكون من أوائل مَن سوف تستدعيهم سلطات التحقيق.
وهناك معلومات تبعث على القلق مثل ما سربه المحققون الفرنسيون من أن جميع عنابر المرفأ توجد بها كاميرات وأجهزة تصوير ما عدا العنبر رقم 12 الذي خزنت فيه شحنة المادة المتفجرة. وأن هؤلاء المحققين الذين كانوا من أوائل من وصلوا إلى مكان الانفجار وشاركوا في التحقيق من بدايته، عادوا إلى بلادهم دون أن يصدروا تقريراً بما وصلوا إليه. وهو نفس ما حدث مع المحققين الأمريكيين من مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبالتأكيد، فإن إعلان تقارير المحققين الفرنسيين والأمريكيين سوف يضيف إضاءات مهمة تفسر ما حدث.
مازال الغموض يكتنف انفجار مرفأ بيروت وما أعقبه من تداعيات وأحداث وخيمة. فهل التأخر في إعلان ما وصل إليه التحقيق هو أمر له أسبابه القانونية أم أنه شكل من المماطلة والتسويف في وقتٍ تزداد فيه مشاكل لبنان تعقداً بعد فشل السفير مصطفي أديب في تشكيل حكومة جديدة، واستفحال الأزمة المعيشية الطاحنة التي أصابت أغلب اللبنانيين، وتهديد الرئيس الفرنسي ماكرون بالعقوبات الاقتصادية بسبب عدم وفاء قادة أحزاب السلطة بالتزاماتهم. فمن الأرجح أن ماكرون لن يُضحي بسمعته السياسية من أجل مُناورات عدد من القيادات الحزبية اللبنانية.
ويكتمل هذا التحليل بإدخال عنصرين إضافيين. الأول دور إيران وتوظيفها لحزب الله والقوى المؤيدة لها في لبنان لمنع تنفيذ المبادرة الفرنسية إلا بتفاهم فرنسي إيراني. والثاني موافقة الثنائي الشيعي – حزب الله وأمل –على بدء مفاوضات لترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل بوساطة أمريكية ورعاية الأمم المتحدة. فهي خطوة تسعى إلى تأجيل العقوبات الاقتصادية الأمريكية على قيادات أحزاب السُلطة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة