في العام 1990 سلمت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مقعدها في الجامعة العربية طواعية بعد أن توافقت مع الجمهورية العربية اليمنية على الدخول في وحدة اندماجية بين البلدين.
ومثلت تلك الحادثة مشهداً تاريخياً عربياً ودولياً، وأعادت للعرب حلم الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج العربي.
التعبير الحالم كان في واقعه تعبيراً عن خيبات عربية لم تكن الوحدة السورية المصرية غير واحدة منها، مع خيبات أخرى في مساعي الرئيس الليبي معمر القذافي للتوحد بعد أن نصب نفسه خليفة للزعيم الكبير جمال عبدالناصر.
العرب والعالم استفاقوا بعد أربعة أعوام من حلم اليمن على كابوس مخيف عندما اجتاحت قوات اليمن الشمالي مدعومة بقوى الإسلام السياسي ومخالبها العنيفة التي مثلها الأفغان العرب الذين جاؤوا من كهوف تورا بورا وجبال قندهار مدفوعين بانتصاراتهم على الاتحاد السوفياتي ليخوضوا حرباً جعلوا منها حرباً مقدسة، فأصدرت لهم الفتاوى لاستباحة كل ما على الجنوب؛ باعتبار أهل الجنوب كفرة شيوعيين، وفي أدنى أحوالهم مرتدين عن الوحدة اليمنية.
وكما استخدم الأمريكيون المتأسلمين في حرب أفغانستان ضد السوفييت استخدموهم لتصفية ما كانت تراه واشنطن بأنه ما تبقى من نفوذ ماركسي في الجزيرة العربية، فدعمت صنعاء بعدم تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي 924 و931 التي نصت بوقف الحرب الشمالية على الجنوب.
فرض شمال اليمن سياسة الأرض المحروقة حتى استطاع فرض سلطة الأمر الواقع بسيطرة كاملة على جنوب شبه الجزيرة العربية.
هيمنة القوى القبلية المدفوعة باحتقان جماعة الإخوان صنع في الجنوب واقعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مدمراً، فحرب صيف 1994 كانت شكلاً طارئاً في حروب ما بعد نشوء الدولة العربية الحديثة في منتصف القرن العشرين، فلقد خلفت الحرب حقيقة أن التحالفات القبلية مع الأفكار الأيديولوجية المتطرفة صنعت واقعاً من القمع والسلوك العنيف لم تعرفه الدول حتى عاد بالظهور في قيام الخرافة التي أطلق عليها تنظيم داعش الإرهابي "دولة الخلافة".
وعبر سلسلة طويلة من الحراك السلمي الجنوبي ناضلت القوى الوطنية في جنوب البلاد حتى وصلت لتكوين حاملها السياسي في 2017 غير أن المجلس الانتقالي الجنوبي ظل في دائرة الشك الإقليمية والدولية، بحجة أنه لا يمثل كافة القوى السياسية الجنوبية.
ومع ذلك تماسك الجنوبيون حتى استطاعوا إصدار الميثاق الوطني، وهو أهم ما حققته الحركة الوطنية في تاريخها فلم يكن قبل هذا الميثاق نقطة إجماع وطنية شكلتها كل هذه الجبهة العريضة من القوى السياسية والاجتماعية إطلاقاً.
ما أنجزه الجنوبيون يضع الجامعة العربية أمام استحقاق سياسي كبير، فالقضية الجنوبية لم يعد من الممكن ترحيلها، فلقد أوفت بكل ما عليها من متطلبات وباتت في مرحلة تستوجب من الجامعة العربية النظر إليها كقضية آنيّة واجبة البت فيها.
الواقعية السياسية تفرض فتحاً لنافذة مع الجنوبيين تساعدهم في تعزيز ما استطاعوا إنجازه، فما نجح جنوباً يمكن أن يصبح حجر الزاوية لمعالجة الوضع المعقد في شمال اليمن، الفرصة مواتية، والعرب عليهم أن يتعلموا الدروس والعبر من تاريخهم، فكم من قضية كان بإمكانهم حلّها مبكراً، وبترددهم وترحيلهم تفاقمت وتفجرت.. وما أزمة السودان ببعيد!
عودة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية احتاجت لمبادرة سياسية شجاعة بدأتها الإمارات في 2018، فالقضايا وإن كانت كبرى وشائكة غير أنها تتطلب مبادرة، وعدن تنتظر مبادرة كتلك المبادرة التي أعادت سوريا رغماً عن العوائق، بما فيها قانون قيصر الأمريكي.
فالعرب إن اجتمعوا على قرار استطاعوا، وها هم أمام اختبار قومي آخر يتطلب المبادرة، فلا يمكن بعد كل هذا التأجيل الذي قد يضيع الفرصة ويحولها لكابوس عربي آخر، فهذه منطقة مصابة بداء الترحيل السياسي للقضايا، حتى إن تفجرت فزعت وتوجعت، فهذه عدن آن لها أن تأتي كما أتت شقيقتها دمشق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة