من الناحية السياسية كانت الحكومة العراقية المركزية تعلم أنها تخسر الكثير إذا ما بدأت الحوار والمفاوضات وكركوك ليست تحت سيطرتها.
بعد استعادة الحكومة المركزية العراقية السيطرة على مدينة كركوك، أتى وقت الحوار والتفاوض مع الأكراد حول مستقبل الإقليم. وفي البداية علينا أن نضع في الاعتبار أن كركوك كانت على الأقل من الزاوية السياسية-الجغرافية خارج حدود خارطة الإقليم الكردستاني المتمتع بالحكم الذاتي، على الرغم من دعوات ومطالبات كردية تاريخية بالمدينة.
يقدر احتواء مدينة كركوك ومحيطها على نحو 13 مليون برميل من احتياطيات النفط العراقي، أي ما يقرب من 10% من جملة الاحتياطيات العراقية المؤكدة. وتصل الطاقة الإنتاجية إلى نحو 750 ألف برميل، بينما لا ينتَج من المدينة حاليا سوى نحو 400 ألف برميل يوميا
فعلى الأرض يتوزع سكان المدينة فعلياً بين عدد من الأعراق والأديان والمذاهب، يعد الأكراد قسماً منهم. ولم يسيطر الأكراد فعلياً على المدينة سوى مع اجتياح فلول داعش لشمال العراق.
ومن الناحية السياسية كانت الحكومة العراقية المركزية تعلم أنها تخسر الكثير إذا ما بدأت الحوار والمفاوضات وكركوك ليست تحت سيطرتها، بل وبعد أن تم إجراء الاستفتاء في المدينة حول استقلال إقليم كردستان بما يعني وضعها داخل حدود الدولة التي يزمع إعلانها.
وكركوك هي في الواقع درة التاج في هذه المنطقة من العراق لعدة أسباب. حيث يقدر احتواء المدينة ومحيطها على نحو 13 مليون برميل من احتياطيات النفط العراقي، أي ما يقرب من 10% من جملة الاحتياطيات العراقية المؤكدة. وتصل الطاقة الإنتاجية إلى نحو 750 ألف برميل، بينما لا ينتُج من المدينة حالياً سوى نحو 400 ألف برميل يومياً. هذا إلى جانب اعتقاد واسع، ما زالت تعوزه المسوح الفنية والاستكشافات المؤكدة، بأن المدينة وما حولها تضم الاحتياطيات الأكبر من الغاز الطبيعي في العراق.
وثانيا وربما الأكثر أهمية في المدى القصير أن المدينة يبدأ منها أكبر تسهيل لتصدير النفط للخارج، حيث أنبوب النفط الذي يمتد من كركوك وحتى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. وكان يتم استخدام الأنبوب في تصدير أغلب نفط المدينة والإقليم الكردي، حيث تبلغ الصادرات ما يزيد على نصف مليون برميل يومياً، بينما تبلغ الطاقة القصوى للأنبوب نحو 1.1 مليون برميل يومياً، بما يعني أنه بإعادة تأهيله يمكن أن يتم تصدير كميات أكبر من النفط الذي يتم التطلع لإنتاجه مستقبلاً، سواء من المدينة أم من الإقليم الكردي ذاته. ويدمج هذا الخط مصالح أكبر من خارج العراق، حيث تحصل تركيا على بعض النفط وعلى رسوم ترانزيت لعبور النفط لأراضيها عبر الأنبوب.
وكانت العلاقات القوية التي تربط الإقليم الكردي بتركيا تتأتى من القدرة على تصدير النفط عبر الأنبوب واستيراد كثير من احتياجات الإقليم من تركيا، وهو أمر كانت تقبل به تركيا حتى مع اعتراض الحكومة المركزية في بغداد على إنتاج وتصدير النفط، وخاصة من كركوك بدون موافقتها. ولكن أن يتم تصدير النفط في ظل رغبة كردية معلنة معززة باستفتاء تقول نتائجه إن الغالبية ترغب في دولة كردية مستقلة فهو أمر آخر لم تكن تركيا على استعداد للسماح به، ليس فقط لإمكانية انعكاس ذلك على تقوية النزعة للاستقلال لدى أكراد تركيا الأكبر عدداً (أكثر من 20 مليون)، ولكن أيضا إمكانية مساومتها من قبل الإقليم الكردي العراقي بحجم المصالح المتحققة من تصدير النفط واستيراد احتياجات الإقليم منها.
وتثار أفكار حول إمكانية قيام الحكومة المركزية ببناء جزء جديد لأنبوب نفط كركوك-جيهان بحيث يتجنب خط السير الحالي للأنبوب الذي يمر بإقليم كردستان إلى الشمال من كركوك، ولكن مثل هذا الإجراء سيتوقف بالطبع على نتيجة المفاوضات، وهو في كل الأحوال بحاجة لبعض الوقت لإنجازه. ولكن يبقى هذا الإجراء كسيف مسلط على رقبة قادة إقليم كردستان، فإذا مضوا في خططهم للاستقلال، يمكن بناء هذا الجزء من الأنبوب وخنق الإقليم بالكامل. إذ يسمح خط السير الجديد للأنبوب بتصدير نفط كركوك دون بقية النفط المنتج داخل إقليم كردستان.
فالإقليم يبقى إقليماً مغلقاً لا تتوفر له مخارج لتصدير النفط سوى عن طريق عبور أراضي جيرانه، سواء تركيا أو إيران، ومع رفض البلدين لخطط استقلال الإقليم سيتم رفض تصدير النفط عبرهما، في الوقت الذي يعد فيه النفط هو المصدر الرئيسي للدخل في كردستان.
والأمر المهم أيضاً في ذات السياق هو الإغراء الذي يشكله نفط المنطقة، وبالتسهيلات المتوفرة فيها سواء للتكرير أو التصدير، في أعين شركات النفط الكبرى وما وراءها من نفوذ دولي. وربما تأتي هنا أهمية ما أعلنه وزير النفط العراقي فور سيطرة الحكومة المركزية في بغداد على كركوك من دعوة شركة بريتش بتروليم (بي بي) البريطانية للعمل في حقول نفط المدينة من أجل رفع مستوى إنتاجها.
يمكن القول أيضاً أن نجاح الحكومة العراقية في إعادة السيطرة على المدينة كان نجاحاً مزدوجاً، حيث دخلت الإقليم دون قتال تقريباً، وكما يبدو واضحاً في ظل تفاهم مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. فقد قامت قوات البشمركة التابعة للحزب بتسليم مواقعها وخاصة حقول النفط ومصفاة التكرير دون معارك.
وقد تأكد موقف الحزب مع دعوة الرئيس فؤاد معصوم (الذي ينتمي لهذا الفصيل الكردي) إلى الحوار والتفاوض على أساس الدستور العراقي. ومع سيطرة الحزب على مدينة كبيرة كالسليمانية ونفوذه الكبير في مدينة كركوك يفرض نفسه كطرف مفاوض مستقبلا، وهو ما يضعف دون شك من القدرات التفاوضية لمسعود البرزاني، رئيس الإقليم وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، بادعاء تمثيله لكامل كردستان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة