اتفاق تقاسم السلطة.. السودان على طريق المصالحة الوطنية
التوافق بشأن الوثيقة الدستورية يمثل بادرة أمل على طريق المصالحة الوطنية بالسودان، كما يمثل انفراجة سياسية تحتاج إليها البلاد بشدة.
بعد مخاض عسير، ووسط مشاعر اختلط فيها الترقب بالأمل، وقع الفرقاء السياسيون في السودان بالأحرف الأولى على وثيقة دستورية، تعد بمثابة إعلان دستوري يحدد قواعد تقاسم السلطة، وإدارة الدولة، وتسوية الصراعات، خلال المرحلة الانتقالية "39 شهراً"، وذلك بعد مفاوضات قاربت على 4 أشهر، بدأت بشكل غير مباشر، وبأسقف مرتفعة للغاية، لتنتهي بالتوافق بشأن تشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية، وأولويات العمل المستقبلية. وهو ما يعد خطوة أساسية على طريق إنشاء الجمهورية الجديدة وبناء سودان ما بعد الإنقاذ الوطني، وفقاً لمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وهى الحرية والسلام والعدالة.
تم توقيع الوثيقة بقاعة الصداقة بالخرطوم، بمشاركة الوسيط الأفريقي محمد الحسن ولد لبات، والإثيوبي محمود درير، ونصت الوثيقة على إلغاء العمل بدستور السودان الانتقالي لعام 2005، ودساتير الولايات، واستمرار العمل بالقوانين الصادرة بموجبها ما لم تلغ أو تعدل، وأن تعتبر المراسيم الصادرة منذ عزل الرئيس البشير في أبريل/نيسان 2019 حتى تاريخ توقيع الوثيقة الدستورية سارية المفعول، ما لم تلغ أو تعدل بمعرفة المجلس التشريعي الانتقالي.
منحت الوثيقة الدستورية السيادة للشعب، وأكدت أن جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، ديمقراطية، برلمانية، تعددية، لا مركزية، يسودها حكم القانون، وتقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، دون تمييز بسبب العرق، الدين، الجنس، الثقافة، الرأي السياسي، أو غيرها من الأسباب.
وبالنسبة لمؤسسات إدارة الدولة فقد تضمنت المجلس السيادي، والذي ويضم 11 عضواً، بواقع 5 أعضاء من المدنيين ومثلهم من العسكريين، بالإضافة لشخصية مدنية تحددها قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، بحيث يتولى العسكريون رئاسة المجلس السيادي لمدة 21 شهراً، قبل أن تؤول لقائد مدني خلال الـ18 شهراً التالية. كما تم الاتفاق على تشكيل حكومة تكنوقراط، تختارها قوى الحرية والتغيير، بالإضافة لمجلس تشريعي بأغلبية من قوى الحرية والتغيير، بحيث يعقد أول اجتماعاته خلال 3 أشهر من إقرار الوثيقة الدستورية.
أعطت الوثيقة مجلس السيادة صلاحيات واسعة، تكسبه وضعاً مهيمناً خلال المرحلة الانتقالية، حيث يتولى اعتماد تعيين رئيس الحكومة وأعضائها، بعد اختيارهم من جانب قوى الحرية والتغيير، واعتماد حكام الأقاليم، عقب تعيينهم من رئيس الحكومة، واعتماد تعيين أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، والنائب العام وسفراء السودان بالخارج، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب بعد توصية من مجلس الأمن والدفاع، ومصادقة المجلس التشريعي.
حددت الوثيقة أيضاً أولويات العمل خلال المرحلة الانتقالية، لتشمل إنهاء الحرب، وتحقيق السلام العادل والشامل، وصياغة دستور دائم للبلاد، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وإصلاح النظام القانوني؛ لضمان استقلال القضاء، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والتي تميز بين المواطنين، وتعزيز حقوق النساء والشباب، وتفكيك بنية نظام الإنقاذ، ومحاسبة عناصره على جرائمهم بحق الشعب السوداني، وتشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة، بدعم أفريقي؛ للتحقيق في انتهاكات الثالث من يونيو 2019، ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وانتهاج سياسة خارجية متوازنة، وعقد مؤتمر قومي دستوري قبل نهاية الفترة الانتقالية.
أكد المفاوضون أن تاريخ التوقيع النهائي على الوثيقة الدستورية سيكون في 17 أغسطس/آب الجاري، على أن يتم تشكيل المجلس السيادي في اليوم التالي مباشرة، وتعيين رئيس الوزراء في 20 أغسطس/آب، وتشكيل الحكومة في 28 من الشهر نفسه، وتشكيل لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال شهر من تعيين رئيس الوزراء.
عقبات في طريق المرحلة الانتقالية
تتمثل أكبر العقبات في طريق المرحلة الانتقالية في أمرين هما: تكوين المجلس التشريعي، وتفكيك دولة الإنقاذ الوطني؛ إذ إنه من المرجح عدم تطبيق اتفاق 14 مايو/أيار 2019، الذي منح قوى الحرية والتغيير 67% من مقاعد المجلس التشريعي، في ظل اعتراض الأحزاب السياسية على تلك النسبة، ومطالبتها المجلس العسكري بتعديلها، بدعوى أن قوى الحرية والتغيير ليست وحدها في ميدان الثورة. كما أن تفكيك أركان نظام الإنقاذ يعد مهمة بالغة الصعوبة؛ نظراً لتغلغل فلول النظام وعناصر الإخوان في مؤسسات الدولة خلال الثلاثين عاماً الماضية، فضلاً عن الإجراءات المطولة المتوقع أن تستغرقها محاكمة رموز النظام السابق.
هنا حاول المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير طمأنة القوى المعارضة للوثيقة الدستورية، بشأن عدم وجود أي نوايا إقصائية لديهما، فأكد الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري أنه سوف يتم حل المجلس بعد تشكيل المجلس السيادي، ونفى وجود تطلعات لأعضاء المجلس للتمسك بالسلطة أو المشاركة في الانتخابات المقبلة، فيما حرصت قوى الحرية والتغيير على رأب الصدع داخل التحالف المعارض، فأكدت توافقها مع المجلس العسكري بشأن صلاحيات ومعايير تكوين المجلس التشريعي، واستمرار تواصلها مع قادة الحركات المسلحة؛ لإقناعهم بمزايا الوثيقة الدستورية، وأن قوى الحرية والتغيير هي تحالف سياسي قائم ومستمر حتى بعد توقيع الاتفاق، وأنه لن يتم حله، وأن قضية إحلال السلم بالبلاد تعتبر قضية مفصلية لا تراجع عنها، خاصة أنها متضمنة في شعار الثورة.
دوافع التوقيع على الوثيقة الدستورية
توافرت العديد من الدوافع التي ساهمت في التوقيع على الوثيقة الدستورية، وتجسير الفجوة وإنهاء حالة الاستقطاب في المواقف بين طرفي الأزمة، حيث أدركت قوى الحرية والتغيير أن ميزان القوى لم يعد في صالحها، وأنها فقدت الكثير من أوراق الضغط التي كانت بحوزتها، وأهمها الإضراب العام والعصيان المدني، اللذان أخفقا في الضغط على المجلس الانتقالي بالإضافة لبروز الانشقاقات داخلها.
في المقابل أيقن المجلس العسكري أنه ليس بمقدوره تجاوز قوى الحرية والتغيير، في ظل الضغوط الإقليمية والدولية، خاصة من جانب الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، التي استخدمت سياسة العصا والجزرة لأجل توقيع الاتفاق، فلوحت بفرض عقوبات على القيادات السودانية، مع بحث رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وتخفيف عبء الديون الخارجية عنها.
بدا جليا أن الاتفاق جاء في صيغة توافقية، تستند إلى منطق "الحلول الوسطى"، حيث حصل الطرفان على عضوية متساوية بالمجلس السيادي، والحق في اختيار شخصية توافقية من المدنيين، تتوافر لها سمات النزاهة والحياد. كما أن الاتفاق لم يقر بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في فض اعتصام القيادة العامة، مكتفياً بتشكيل لجنة وطنية للتحقيق في الانتهاكات بحق الثوار، وهو الأمر الذي كانت تتمسك به قوى الحرية والتغيير، قبل أن تضطر للتخلي عنه، مقابل الحفاظ على حقها في تشكيل حكومة كفاءات وطنية، والاحتفاظ بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي البالغة 300 مقعد.
كما وضع الاتفاق جهاز الاستخبارات والأمن تحت سلطة المجلس السيادي، فيما جعل قوات الدعم السريع تحت إشراف القائد العام للقوات المسلحة، مع منح الحصانة الإجرائية لمجلس السيادة والبرلمان ومجلس الوزراء، بدلا عن الحصانة المطلقة، وحظر تولي حامل الجنسية المزدوجة منصباً بالوزارات السيادية (الخارجية، الدفاع، الداخلية، المالية، فضلاً عن منصب رئيس الوزراء)، والسماح لهم بالمشاركة في البرلمان والمفوضيات.
مواقف متابينة
تباينت ردود الأفعال إزاء الاتفاق؛ فأثنى المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على دوره في إنهاء العنف، وحماية الثورة، ومنح الأولوية لبناء سودان جديد يتسع للجميع، على أساس احترام حقوق المواطنة. وأكدت قوى الحرية والتغيير أن الوثيقة تشكل مرحلة فاصلة للانتقال نحو الديمقراطية. كما خرجت المسيرات الشعبية للتعبير عن الابتهاج بالاتفاق، وتوالت بيانات التأييد من جانب الأحزاب السياسية، وعلى رأسها حزب الأمة القومي، والمؤتمر الشعبي، بالإضافة لهيئة علماء المسلمين، وجماعة أنصار السنة.
في المقابل، رفض الحزب الشيوعي الاتفاق، وانتقدته أيضاً الحركات المسلحة، حيث أكدت الجبهة الثورية بقيادة مالك عقار أن الاتفاق لم يتضمن رؤية متكاملة لتحقيق السلام بالبلاد، وتمسكت بحقها في الحصول على 35% من مقاعد المؤسسات الانتقالية.
وأعلنت حركة تحرير السودان، فصيل مني مناوي، أن الاتفاق لم يعبر عن قضايا الوطن، وأن أي اتفاق لم يؤسس على أرضية السلام يعتبر امتداداً لنظام الإنقاذ السابق، وأكدت الحركة الشعبية لتحرير السودان/جناح عبدالعزيز الحلو أن الاتفاق جاء بدون تفويض، وأن قوى الحرية والتغيير أقصت شركاءها.
فيما رفضت حركة تحرير السودان بزعامة عبدالواحد نور الوثيقة الدستورية كليةً، معتبرة أن التوقيع عليها يعتبر خيانة للثورة ولدماء الشهداء؛ لذا فمن المرجح أن تكون هذه الحركة هي أكثر المتشددين ضد الاتفاق.
في النهاية، فإن التوافق بشأن الوثيقة الدستورية يمثل بادرة أمل على طريق المصالحة الوطنية بالسودان. كما يمثل انفراجة سياسية تحتاج إليها البلاد بشدة، لكي يتفرغ ولاة أموره للوفاء بباقي استحقاقات المرحلة الانتقالية، وأهمها: تحقيق السلام، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، والتضامن لأجل استكمال رفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، وصيانة حقوق شهداء ومصابي الثورة، وإعادة بناء الوطن، على أساس العدل والمساواة والمواطنة وعدم الإقصاء، وهو ما يتطلب من الجميع تنسيق المواقف، وحسن إدارة الملفات الخلافية، لأجل بناء السودان الجديد، على أن يظل الشعب السوداني هو الضامن الحقيقي لإنفاذ الاتفاق.
** د. أيمن شبانة: نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة
aXA6IDMuMTQ0Ljg5LjQyIA== جزيرة ام اند امز