"أحمد بهاء الدين".. ضمير الصحافة المصرية

مؤسسة روزاليوسف تحتفل بذكرى مرور 90 عاما على مولد الكاتب والصحفي الراحل أحمد بهاء الدين
أحمد بهاء الدين واحد من الذين كرسوا عمرهم في الصحافة والثقافة، ولعب دورا مذهلا في تحرير صحف ومجلات صارت هي الأهم والأفضل في تاريخ مطبوعاتنا الورقية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكان لنبوغه وتفوقه الكبير من القلائل الذين ترأسوا تحرير مطبوعات قبل أن يتم الثلاثين من عمره؛ وارتبط اسمه في بداية حياته الصحفية بشهرية (الفصول) (1948-1951)، ثم انتقل إلى أسبوعية "روزاليوسف" (1951-1958)، ليؤسس بعدها أسبوعيته غير المسبوقة "صباح الخير" ويرأس تحريرها لحين انتقاله إلى الشعب ثم الأخبار فأخبار اليوم ثم الهلال، ويسافر إلى الكويت ليترأس تحرير مجلة العربي خلال الفترة (1976-1982) ليعود بعدها ويستقر في الأهرام حتى وفاته، كما شغل منصب نقيب الصحفيين المصريين عام 1968 لمدة أربع سنوات.
في ذكرى مرور تسعين عاما على مولد الكاتب والصحفي الراحل أحمد بهاء الدين، أحد أساتذة الصحافة العربية في القرن العشرين، أقيمت احتفالية هادئة ضمت نخبة من رجال الفكر والثقافة والصحافة المصرية نظمتها مؤسسة روزاليوسف، اجتمع في هذه الاحتفالية كل من: د.عماد أبو غازي وزير الثقافة الأسبق، ومنير فخري عبد النور الوزير الأسبق، وإبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، ويحيى قلاش نقيب الصحفيين، ومحمد أبو الغار، والكاتب محمد سلماوي، ومحمد عبدالقدوس، ويوسف القعيد، ونبيل زكي، فضلا عن زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق، وشقيقته السفيرة ليلى بهاء الدين، وهما ابنا الراحل أحمد بهاء الدين.
الاحتفالية التي نظمتها روزاليوسف كانت أيضا مناسبة للإعلان عن صدور مجلد ضخم يضم مقالات أحمد بهاء الدين التي لم تنشر، وهي ثروة حقيقية، وكنز صحفي يهم كل صحفي شاب أو مقبل على احتراف الصحافة، فتجربة أحمد بهاء الدين كانت من الثراءة والاتساع والتميز للدرجة التي يعتبرها شيوخ الصحافة ومؤرخوها بين الأهم في القرن الأخير.
يقول الكاتب والصحفي صلاح عيسى عن أحمد بهاء الدين وتجربته الصحفية: "ولأن اختياره للصحافة ـ التي تفرغ لها بعد خمس سنوات فقط من اشتغاله بالقانون ـ لكي يؤدي من خلالها دوره في الخدمة العامة لم يكن عشوائيا، فقد كان واعيا بمتطلبات الخطاب الصحفي الذي يتوجه إلى عموم الناس، متمكنا من أدواته، متفننا في أساليبه، سواء في اختيار الموضوع الذي يكتب فيه لأنه يثير اهتمام الناس، أو لأنه يريد أن يثير اهتمامهم به، أو في طريقة عرضه بأسلوب جميل، سلس وسهل، يعرف صاحبه أن الكتابة هي فن التفهيم، ويحرص على أن يفهم، لكي يُفهم عنه".
كان أحمد بهاء الدين واحدا من قليلين في تاريخ الصحافة العربية كله لديهم القدرة على أن يضفوا على المطبوعة التي يرأسونها أو يشرفون على تحريرها شخصية خاصة بها، فجاءت شخصيات الصحف العريقة التي رأس تحريرها لتختلف عن غيرها وعن شخصيتها هي نفسها من قبل ومن بعد، بل وتختلف ـ كذلك ـ عن الشخصيات التي أعطاها هو نفسه لغيرها من المطبوعات.
ويحكي الناقد والكاتب الصحفي محمود عبد الشكور عنه: "قابلت الراحل الكبير أحمد بهاء الدين ببساطة مذهلة. ذهبت إلى مكتبه في الأهرام وطلبت المقابلة للحوار حول "النكتة السياسية في مصر"، فوافق على الفور. ما زلت أذكر إيقاعه الهادئ أثناء الحديث وكأنه يزن كلماته بميزان من الذهب، أدهشني أكثر عندما أعددت دراسة عن مقالاته الأولى التي كان ينشرها في مجلة "فصول" التي ترأّس تحريرها الراحل محمد زكي عبد القادر فاكتشفت أن بهاء الدين كان يكتب بعض المحاولات الشعرية.. وكان يقدم لقارئ أوائل الخمسينيات جولة في معارض الفن التشكيلي".
ولأن مثل هذه الاحتفاليات ليس الغرض الأساسي منها إحياء الذكرى بقدر تجديد المعرفة والإشارة إلى السيرة التي دائما ما يكون هناك حاجة لتعريف الأجيال الجديدة والناشئة بها، خصوصا في مجال تفوقها النوعي وهو هنا الصحافة والكتابة، يقول محمود عبد الشكور بمرارة وسخرية: "ما أفزعنى حقاً أنني ذكرت اسم الأستاذ أحمد بهاء الدين في معرض حديث عابر.. فسألني صحفي متدرب: "مين هو أحمد بهاء الدين؟"!!!
إضاء تاريخية
أحمد بهاء الدين (1927-1996) صحفي مصري كبير، من مواليد الإسكندرية في 17 فبراير 1927 وبعد إتمامه المرحلة الثانوية التحق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول وتخرج فيها عام 1946 وهو في التاسعة عشرة من عمره. وبسبب صغر سنه لم يستطع ممارسة العمل في النيابة أو في المحاماة، فاضطر إلى الالتحاق بوظيفة حكومية في الأقسام القانونية.
ولأنه كان يهوى الصحافة، دأب على كتابة خواطره بأسلوبه السهل والموجز والمركز وإيداعها في صندوق بريد مجلة (روز اليوسف) التي كانت تراها تستحق النشر فتبادر بنشرها دون أن تعرف كاتبها شخصيا. ولما تكرر منه هذا الأمر أسبوعيا استوقفه المسئولون عن الصندوق وقادوه إلى صاحبة المجلة السيدة روز اليوسف التي عرضت عليه الانضمام إلى الدار، فاستقال من وظيفته الحكومية وصار محررًا في المجلة. كان أحمد بهاء الدين يوافي مجلة (الفصول) لصاحبها محمد زكي عبد القادر بمقالات شهرية، فعرض عليه صاحب المجلة أن يرأس تحريرها.
وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 تقرر إصدار جريدة باسم "الشعب" اختير بهاء الدين لريئسة تحريرها، ولكنها لم تعمر طويلًا. وفى عام 1956 اعتزمت دار روز اليوسف إصدار مجلة جديدة باسم "صباح الخير" فاختارت أحمد بهاء الدين لرئاسة تحريرها واتخذ لها شعارًا هو "للقلوب الشابة والعقول المتحررة".
بعدها، انضم أحمد بهاء الدين إلى دار أخبار اليوم ليكون واحدًا من رؤساء التحرير، وبعد صدور قانون تنظيم الصحافة في عام 1961 انتقل إلى مؤسسة (الأهرام) حيث كان يكتب عمودًا بعنوان "يوميات" إلى جانب مقال أسبوعي أوسع مجالًا. وعندما تعارضت أفكار بهاء الدين في يومياته مع سياسة الدولة استقال من رئاسة تحرير الأهرام، ثم قبل عرضا من مجلة (العربي) الكويتية ليرأس تحريرها خلفًا لمحررها الأول الدكتور أحمد زكي الذي توفي عام 1975، وظل أحمد بهاء الدين في الكويت بين عامي 1976 و1982 ليعود بعدها إلى مصر ويكتب عموده اليومي الشهير إلى أن مرض ودخل في غيبوبة لفترة طويلة، ليتوفاه الله فى 24 أغسطس 1996 عن 69 عامًا.
لبهاء الدين عدد من المؤلفات منها: "إسرائيليات" (1965)، و"أيام لها تاريخ" (1967)، و"محاوراتي مع السادات" (1987)، و"يوميات هذا الزمان" (1991)، و"شخصيات لها تاريخ"، و"النقطة الرابعة"، و"فاروق ملكا"، و"رسائل نهرو إلى أنديرا".
ويمكن القول بوجه عام إن خطاب بهاء الدين يكشف عن رؤية تتبنى التقدم والاستنارة، وتدعو إلى الوحدة العربية، سبيلًا للانفلات من التبعية والتخلف.
كانت ثقافة بهاء الدين الأدبية والتاريخية مذهلة، بل إنه نظم الشعر حتى تخرج من الجامعة فقنع بالكتابة السياسية، لكنه ظل قارئًا للأدب. وفي عموده اليومي في الأهرام شن حملات صحفية ضارية لكي لا تبنى أبراج سكنية مكان مبنى دار العلوم القديمة، كما أن حملاته أحبطت مشروعات تجارية لهدم قصر محمد على بالمنيل، وهدم حديقة الأورمان وتحويلها إلى أبراج. اتسمت كتاباته بقدرة إقناعية، وبخطاب مكثف هادئ النبرة يحرص على الدقة والوضوح، فقد كان يرى أن الصحة الأسلوبية قرينة الصحة الفكرية.
aXA6IDE4LjIxOC4yMjEuNTMg جزيرة ام اند امز