يمر هذا العام، 2022، عشرة قرون ونصف القرن على أول صلاة جماعة تؤدَّى في الجامع الأزهر الشريف، الذي بدأ بناؤه في القاهرة عام 970 ميلادية واكتمل بعدها بعامين لتُقام فيه هذه الصلاة.
وبهذا أضحى الأزهر ثالث أقدم المساجد في العالم، التي تحولت إلى جامعات إسلامية، بعد جامعَي الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب.
ولم يكن الأزهر هو الجامع الأول، الذي ينشأ في مصر، فقد سبقه جامع "عمرو بن العاص" في الفسطاط عام 642 ميلادية، وبدأت فيه وظيفة تدريس العلوم الإسلامية قبل إنشاء الأزهر بأكثر من ثلاثة قرون، لكنها لم تستمر به، في حين بقي الأزهر طوال عمره الألْفيّ يؤدي دورَي الجامع والجامعة بصورة منتظمة حتى اليوم.
وفي الوقت الراهن، تضم جامعة الأزهر قرابة تسعين كلية متنوعة التخصصات والعلوم، سواء الإسلامية الشرعية أو الحديثة المتخصصة في العلوم غير الدينية الإنسانية والعلمية، وتضم معًا أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، وما يقارب عشرين ألفًا ممن يقومون بالتدريس فيها.
وإلى جانب الجامعة، يضم قطاع المعاهد الأزهرية أكثر من عشرة آلاف معهد ومدرسة، تشمل كل مراحل التعليم، من الابتدائي حتى الثانوي، بعدد تلاميذ وتلميذات يقارب 2.5 مليون.
وقد أصبح الأزهر، الجامع والجامعة، اليوم، وبعد كل هذه القرون الطويلة، المرجعية الأكبر لأهل السنة حول العالم بمذاهبهم المتنوعة، وهي مكانة لم تقتصر على المعاني الرمزية، بل تحولت عبر الزمن إلى مكانة واقعية اكتسبها الأزهر من عدة حقائق.
أول هذه الحقائق أن الأزهر، الجامع والجامعة، لازمه منذ قيامه، استقباله للطلاب من مختلف دول العالم المسلمة، لدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية، وبعد تطوير جامعته أيضًا لدراسة العلوم الإنسانية والعلمية.
وقد بلغ عدد الطلاب الوافدين للدراسة في الأزهر خلال العام الدراسي 2021/2022، أكثر من خمسة وأربعين ألف طالب وطالبة، منهم نحو 26 ألفا يدرسون بجامعة الأزهر، و20 ألفا في التعليم ما قبل الجامعي بالمعاهد الأزهرية، وينتمون إلى أكثر من 100 دولة من كل أرجاء العالم.. وتحتل إندونيسيا، تليها ماليزيا ثم سوريا، تليها تايلاند وبعدها نيجيريا، الدول الخمس الأكثر إيفادًا للدارسين في الأزهر بجامعته ومعاهده على مستوى العالم.
وحفاظًا من الأزهر على دوره العالمي، وتيسيرًا على الطلاب المسلمين العرب والأجانب للقدوم للدراسة فيه، فإن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الوافدين يتمتعون بمنح دراسية كاملة من الأزهر تُعفيهم من مصروفات الدراسة.. وحرصًا من الأزهر على استيعاب الطلاب الوافدين، وإدماجهم في بيئته على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم ولغاتهم، فقد وفر عدة مؤسسات وكياناتٍ، منها مدينة البعوث الإسلامية، التي يقيم بها الطلاب والطالبات، وتوفر لهم جميعًا مقومات الإعاشة والتعايش لثقافات متباينة من الطلاب الوافدين، بما فيها أنشطة ثقافية وفكرية واجتماعية ودينية متنوعة.
ولعل أبرز نتائج دراسة كل هؤلاء الوافدين من جنسيات وثقافات ولغات مختلفة للغاية، هي أنهم جميعًا ينتهون -بعد إكمال دراستهم- إلى الإجادة التامة للغة العربية والتخصص العلمي الدقيق، والأهم الوسطيّ، في مختلف العلوم الدينية الإسلامية.
ونتيجة لتخرج عشرات، وربما مئات الآلاف من الأزهر -جامعة ومعاهد- خلال العقود الأخيرة، وتبوؤ أعداد كبيرة منهم مناصب ومواقع مهمة في بلدانهم، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، وتحول بعضهم إلى قامات كبيرة في بلادهم تنشر الفكر الإسلامي الوسطي فيها، فقد أسس الأزهر عام 2007 الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، والتي يرأسها شيخ الأزهر بنفسه، ولتضحي الكيان العالمي الذي يعمل على تعضيد التواصل بين الأزهر وأبنائه في كل ربوع العالم، وإحياء الدور العالمي للأزهر ومنهجيته الوسطية، والحفاظ على هوية الأمة وتراثها والدفاع عن قيم الإسلام والوقوف في وجه حملات التشكيك والتشويه المُغرضة، التي يتعرض لها، ومحاربة أفكار الغلو والتطرف وممارسات العنف والإرهاب باسم الإسلام.
وهكذا يبقى الدور العالمي للأزهر -جامعا وجامعة ومعاهد- بمثابة المرجعية السنية الأكبر في العالم وفنارها، الذي لا يشع فقط أفكار وأنوار الوسطية والاعتدال والعلم الصحيح، بل أيضا بشرا من علماء وقادة درسوا به وتعلموا رسالته السمحة، لكي ينقلوها على أرض الواقع لمواطنيهم في بلدانهم، مواصلا جهده الكبير في توثيق الوشائج بينهم عبر رابطته العالمية لخريجيه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة