يدرك أردوغان أن ورقة ألبيراق كقناة اتصال مع الإدارة الأمريكية لم تعد لها قيمة، وعليه ينبغي التخلص منه بحثا عن قناة أخرى.
استقالة أو إقالة وزير المالية التركي براءت ألبيرق، جاءت في توقيت حساس لنظام أردوغان، توقيت له علاقة بأزمات داخلية متفاقمة، وخيارات سياسية صعبة، واستحقاقات كثيرة على صعيد السياسة الخارجية. في الجدل التركي الداخلي بخصوص استقالة ألبيرق، يجري الحديث عن أسباب عديدة، لعل أهمها:
الأول: مسؤولية ألبيرق المباشرة عن انهيار قيمة الليرة التركية أمام الدولار، إذ إنها خسرت خلال العام الحالي أكثر من ثلاثين في المئة من قيمتها، وهو ما أدى عمليا إلى تبخر القدرة الشرائية للمواطن التركي، في ظل تبخر جميع وعود ألبيرق بالإصلاح، ورسمه صورة زاهية للاقتصاد التركي، عكس الواقع الذي كان يزداد تفاقما وقتامة.
الثاني: ازدياد حجم المطالبة الداخلية بإقالة ألبيرق على خلفية فشله، ولا سيما في الأوساط الشعبية التي أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي حملات وهاشتاقات تطالبه بالاستقالة، كما طالبت أحزاب المعارضة أردوغان بإقالته، وبسبب كل ذلك، باتت كلمة الصهر تشكل عقدة لأردوغان؛ لأنها أصبحت رمزا للفساد العائلي الذي اعتمده أردوغان في الحكم، ولعل هذا ما دفعه إلى تجريم كلمة الصهر في الصحافة التركية.
الثالث: وصول الانقسام بشأن ألبيرق إلى داخل حزب العدالة والتنمية؛ إذ تقول التقارير إنه قبل يومين من استقالة ألبيرق هدد أربعين نائبا أردوغان خلال اجتماع لحزب العدالة والتنمية بالاستقالة من الحزب، والانضمام إلى حزب الديمقراطية والتقدم بزعامة علي باباجان، ما لم تتم إقالة ألبيرق، ولعل هذا ما يفسر التصريح المثير لأردوغان والذي لم ينتبه إليه أحد، عندما قال إن من ينفصل عن الشعب لن يكون له مكانة في حزب العدالة والتنمية، وهو ما يعني أن أردوغان نفسه بات يدرك أن ألبيرق تحول إلى عبء على نظامه، رغم كل محاولته لتحسين صورته وحمايته، مع أن أردوغان يتحمل المسؤولية الأولى عن كل ما سبق.
من دون شك، كل هذه الأسباب تبدو مقنعة ومنطقية في ظل الأزمة المالية التي وصلت إليها تركيا، وتهديدها مصير حكم حزب العدالة والتنمية في أي انتخابات مقبلة، لكن من يعرف طريقة تفكير أردوغان وبراغماتية لا بد أن يذهب إلى أبعد من هذه الأسباب؛ إذ يدرك أردوغان معنى قدوم جو بايدن إلى سدة الرئاسة الأمريكية، وهو نفسه بايدن الذي وصف أردوغان قبل فترة بالحاكم المستبد، متعهدا بدعم المعارضة التركية لإسقاطه في الانتخابات، كما أنه كان المسؤول الأمريكي الأهم الذي اتهم أردوغان بدعم المسلحين والإرهابيين وإرسالهم للقتال في سوريا، وهنا تأتي أهمية توقيت استقالة أو إقالة ألبيرق؛ إذ إن الأخير كان يشكل قناة اتصال أردوغان بالإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب، حيث كان ألبيرق يشكل مع جاريد كوشنر صهر ترامب، الثنائي الحامي لمصالح أردوغان-ترامب، وبسبب هذه العلاقة كثيرا ما اتهم ترامب بالتغاضي عن ممارسات أردوغان، بدءا من عملياته العدوانية ضد الأكراد في شمال سوريا وشرقها، مرورا بقضية تورط بنك خلق التركي في التحايل على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وصولا إلى اتمام أردوغان صفقة المنظومة الصاروخية إس-400 مع روسيا، رغم كل الاعتراضات الأمريكية والأوروبية والحلف الأطلسي، حيث كان ترامب على الدوام يلعب الدور المانع لفرض العقوبات على نظام أردوغان رغم عشرات المشاريع التي أدرجت في الكونجرس بهذا الخصوص؛ إذ إن دبلوماسية الهاتف بين أردوغان وترامب كانت كفيلة بحل أو تهدئة أي مشكلة، وهي دبلوماسية سيخسرها أرودغان مع تسلم بايدن مهامه في يناير المقبل.
يدرك أردوغان أن ورقة ألبيرق كقناة اتصال مع الإدارة الأمريكية لم تعد لها قيمة، وعليه ينبغي التخلص منه بحثا عن قناة أخرى، وفي العمق ينتظر أردوغان معرفة فريق بايدن، كي يحدد بديلا عن ألبيرق ليس وزيرا للمالية، وإنما قناة اتصال مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما يأمل في عناصر من فريق باراك أوباما في إدارة بايدن، للأهمية التي أعطاها أوباما لسياسة أردوغان، بوصفه يؤسس لنموذج إسلامي معتدل، كما تحدث خلال زيارته لتركيا عام 1999، لكن أردوغان يتجاهل عن عمد ما فعله طوال السنوات الماضية، وكيف استغل الإسلام السياسي لصالح مشاريعه التوسعية، وكيف حول تركيا إلى مركز للتطرف وتهديد أمن أوروبا والعالم.
هذا التطور الخطير الذي يتجاهله أردوغان يدركه بايدن جيدا، ولذلك لسان حاله يقول إن تركيا في عهده يجب أن تتوقف عن التصعيد في شرق المتوسط، والكف عن عملياتها العدوانية ضد أكراد سوريا، ووضع حد لذهابه بعيدا في علاقاته مع روسيا وإيران، وإن تحسين العلاقة الأمريكية-التركية يمر عبر اتباع تركيا سياسة لا تتناقض مع الاستراتيجيات الأمريكية العليا، هذا ما أكده بايدن في مايو الماضي، عندما قال "علينا أن نناقش كيف ومع من ستأخذ السياسة الخارجية التركية شكلها في المرحلة المقبلة"، بمعنى آخر يريد بايدن تركيا في بيت الطاعة الأمريكي، وليس وفق أحلام أردوغان العثمانية التوسعية، ومغامراته العسكرية هنا وهناك.. في الواقع استقالة أو إقالة ألبيرق كانت رسالة أردوغان المبكرة للإدارة الأمريكية الجديدة، ومحاولة منه للبحث عن فريق جديد للتواصل معها، وهي سياسة تؤكد مدى استعداد أردوغان للتخلص حتى من أقرب مقربيه إنقاذا لنظامه، فهو سبق أن انقلب على معلمه نجم الدين أربكان، ومن ثم تخلص من رفيق دربه عبدالله، ومن ثم من منظره الأيديولوجي أحمد داود أوغلو، واليوم من صهره ألبيرق، وهو في كل ذلك يبحث عن ثابته الوحيد، ثابت البقاء في السلطة، والتضحية بكل من يشكل عائقا في وجه هدفه هذا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة