انتخاب بايدن رئيساً للولايات المتحدة لن يترتب عليه حدوث تحولات كبيرة في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة كما يتوقع البعض.
حسم المرشح الديمقراطي جو بايدن نتائج واحدة من أكثر دورات انتخابات الرئاسة الأمريكية استثنائية وتعقيداً، ليصبح الرئيس رقم 46 للولايات المتحدة الأمريكية. وهذه الاستثنائية ليست فقط بسبب الظروف التي فرضتها جائحة كورونا أو التغيرات التي جرت في آليات التصويت، خاصة التصويت المبكر عبر البريد، ولكن أيضاً بسبب احتدام المنافسة وتقارب نسب التصويت لكلا المرشحين، والتي أسهمت جميعها في تأخر حسم النتائج لمدة خمسة أيام كاملة.
وبصرف النظر عن مدى قبول الرئيس ترامب لنتائج الانتخابات ونتائج المسار القانوني الذي أعلن المضي فيه، والمعارك القضائية التي قد يخوضها على هذا الصعيد، فإن التساؤل المهم الذي يطرح نفسه على الساحة الإقليمية لمنطقتنا هو: إلى أي مدى يمكن أن تتغير السياسة الأمريكية تجاه المنطقة في عهد بايدن؟
أهمية هذا السؤال تعود إلى حالة الترقب التي تسود المنطقة والعالم، وأيضاً إلى التهليل الذي قابلت به قوى الشر والتطرف في المنطقة من إيران إلى قطر مروراً بجماعة الإخوان المسلمين خبر فوز بايدن بالانتخابات، والذي بدا وكأن مجيء بايدن إلى البيت الأبيض سيعيد شريان الحياة إلى هذه القوى من جديد بعد سنوات من العزل والضغط الأمريكي عليها خلال فترة حكم الرئيس ترامب. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل فوز بايدن يعني عودة السياسة الأمريكية إلى سابق عهدها أيام إدارة الرئيس باراك أوباما؟
الإجابة ببساطة هي لا؛ لأسباب عدة؛ أهمها أن الأوضاع والظروف في المنطقة قد تغيرت كثيراً عن تلك التي كانت سائدة قبل مجيء ترامب، فالدعم الذي كانت تحظى به جماعة الإخوان المسلمين من إدارة أوباما بحجة أنها تمثل جماعات الإسلام السياسي المعتدل لن يتكرر بعد أن اتضح للجميع، شرقاً وغرباً، خطر المشروع الفكري والأيديولوجي لهذه الجماعة، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضاً في الغرب نفسه، على نحو ما أوضحته التحركات الأوروبية الأخيرة للتضييق على نشاطات هذه الجماعة والخطاب المتطرف الذي تروج له، كما أن هذه الجماعة أصبحت منبوذة بصورة كبيرة من قبل شعوب المنطقة التي اكتشفت حقيقتها، ولم يعد لها أي شعبية للمراهنة عليها.
أمام نموذج حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان، والذي كانت تعتبره إدارة أوباما نموذجاً ديمقراطياً لجماعات الإسلام السياسي يمكن تطبيقه في دول أخرى، فقد تأكد لبايدن نفسه فشل هذا النموذج، وتحول تركيا-أردوغان لعنصر توتر في المنطقة كلها، وتحول نظامها إلى نظام استبدادي قمعي.
وقد اتهم بايدن الرئيس أردوغان في أغسطس الماضي بـ"المستبد"، داعيا بلاده إلى اتباع "نهج مختلف تماما" معه، و"تشجيع" قادة المعارضة على مواجهته. ويعني هذا ببساطة أن نهج بايدن تجاه الإخوان وداعميهم، خاصة الأتراك، سيكون مختلفاً بصورة كبيرة عن أوباما، كما أن واشنطن ستكون أكثر حسماً في مواجهة السلوكيات التركية المثيرة لعدم الاستقرار في المنطقة.
وفيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، ورغم أن احتمال قيام بايدن بإلغاء قرار الانسحاب من الاتفاق النووي وعودة واشنطن إليه، يظل وارداً بالنظر إلى تصريحاته السابقة، فإنه من غير المتوقع أن يتجاهل بايدن حقيقة التطورات التي حدثت على الأرض في هذا الملف، وهو ما يعني أن إدارته ستطلب على الأرجح إدخال تعديلات على الاتفاق قبل العودة إليه تأخذ بعين الاعتبار جوانب القصور السابقة التي اكتنفته، وهو أمر كان يسعى إليه أيضاً الرئيس ترامب ولكن بأسلوب مختلف.
أما ملف عملية السلام في الشرق الأوسط والتطورات الإيجابية التي شهدها في الآونة الأخيرة، فهي بالتأكيد موضع ترحيب من بايدن ومن جميع القوى الأمريكية، والأرجح أن بايدن سيواصل مسار السلام في المنطقة بذات الهمة التي انتهجها الرئيس ترامب؛ لأن هذا الملف لا يوجد عليه أي اختلاف داخل الولايات المتحدة بصرف النظر عن هوية من يسكن البيت الأبيض.
وفيما يتعلق بملف العلاقات الخليجية-الأمريكية، فهي علاقات تحالفية ثابتة وراسخة لا تتغير كثيراً بتغير الرؤساء الأمريكيين، أو بتغير الحزب الحاكم في واشنطن؛ لأنها مبنية على قاعدة قوية من المصالح المشتركة، على المستويين الاقتصادي والاستراتيجي، وهذا الأمر لا جدال فيه ويؤكده تعامل الإدارات الأمريكية السابقة مع المنطقة، بما في ذلك حتى إدارة أوباما التي دعمت عملية "عاصفة الحزم" في اليمن بقيادة السعودية؛ لأن الأمر بات يتعلق بأمن هذه المنطقة المهمة لواشنطن والعالم. أما حديث بايدن خلال الحملات الانتخابية فهو لا يتعدى حاجز الدعاية الانتخابية مثل غيره من الرؤساء السابقين، فالواقع شيء والدعاية الانتخابية شيء آخر. وبايدن كان نائباً للرئيس ويفهم جيداً حسابات المنطقة وأهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة والعالم.
خلاصة القول: لن تكون هناك تغيرات مهمة في السياسة الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط، على الأقل في السنوات الأولى لبايدن، لا سيما مع تركيزه المتوقع على إعادة ترتيب البيت الأمريكي من الداخل، وإعادة بناء تحالفات أمريكا الخارجية، ومواجهة أزمة كورونا التي لا تزال خطورتها في تفاقم، ومن ثم التفرغ لمواجهة القوى المنافسة وعلى رأسها الصين وروسيا، وهي القضايا التي يتوقع أن تشغل بال ساكن البيت الأبيض الجديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة