شهدت الانتخابات الأمريكية 2020 من الخلل والمخالفات ما ينال من جميع الإجراءات المتعارف عليها في التقاليد الأمريكية.
في الفترة ما بين 1835 و1840 كتب القاضي الفرنسي "اليكسي دي توكفيل" الأرستقراطي الفرنسي كتاباً من جزأين بعنوان "الديمقراطية في أمريكا"، وكان هذا الكتاب خلاصة زيارة قام بها دي توكفيل إلى أمريكا لدراسة نظام السجون فيها. خلاصة هذا الكتاب أن النظام الأمريكي هو نموذج مفتوح لتحقيق الكمال والمثالية في الحكم الديمقراطي؛ الذي يحقق الحرية والمساواة وحكم القانون، وأنه هو النموذج المثالي الذي يجب أن تسعى للتعلم منه النظم الأوروبية، وتستفيد من تجربته التي تعطي السيادة للشعب بصورة كاملة، وهذه السيادة تتحقق بصورة أقوى كلما اقتربت السلطات من الشعب؛ فتكون قوية وفي أكمل صورها على المستويات المحلية، ثم مستوى الولايات، وأخيراً على المستوى الفيدرالي، وبذلك تكون الديمقراطية التي ترسخ السيادة للشعب ممزوجة مع النظام الفيدرالي أو الاتحادي هي النموذج الذي يحقق الكمال والمثالية في الحكم والسياسة.
فماذا حدث لهذا النظام الذي كان يعد الأكثر إتقانا وكفاءة وفعالية على مستوى العالم؟ بالتأكيد تعرض هذا النظام للعديد من الأزمات الدستورية والقانونية والسياسية إلا أنه خرج منها جميعاً أكثر قوة وتمكناً وأكثر بريقاً؛ لأن تلك الأزمات أثبتت أن النظام لا يزال يعمل بكفاءة واقتدار، وذلك من تمديد فترات حكم الرئيس "تيودور روزفلت" في فترة الحرب العالمية الثانية لتستمر من 1933 إلى 1945، إلى اغتيال الرئيس جون كندي، وفضيحة وترجيت، وعزل الرئيس نيكسون على إثرها، وأخيراً فضيحة بل كلينتون الأخلاقية وعدم عزله.
كل ذلك لم ينل من الديمقراطية الأمريكية حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001، التي فتحت الباب للنيل من جوهر منظومة القيم الأمريكية التي تمثل الأساس الصلب للديمقراطية الأمريكية. فقد كان من نتائج هذه الحادثة التي هزت الوجدان الأمريكي أن قيمة الحرية لم تعد مقدسة، ولم تعد هي القيمة العليا، بل تم النيل منها، والتضحية بها من أجل تحقيق الأمن، وهنا تراجعت قيمة الحرية التي كانت هي جوهر الديمقراطية الأمريكية لتحل محلها قيمة الأمن، فتم التدخل في شؤون المواطنين، وتقييد حرياتهم والتجسس عليهم، وتفتيش ممتلكاتهم وتقليص مجال خصوصيتهم، وهنا فقدت أمريكا روحها، ولم تعد ذلك الفضاء الفسيح لحرية الإنسان التي ينعم بها جميع الموجودين على أرضها بغض النظر عن عقائدهم وألوانهم.
وبعدها جاءت الأزمات الاقتصادية المتتالية منذ 2008 وخسر الملايين من المواطنين الحلم الأمريكي الذي عني ملكية بيت للأسرة، وذلك بعد أن خسروا وظائفهم، وفقد المجتمع مع تلك الأزمات مساحة التسامح الهائلة التي كانت يتمتع بها، وانتشرت ثقافة العداء للمهاجرين، والرغبة في الانغلاق على العالم، وكراهية التعاون والمشاركة مع الجميع، في ظل ذلك انتشرت التوجهات العنصرية المتعصبة الكارهة للمهاجرين في دولة هي في ذاتها دولة مهاجرين. هنا جاء الرئيس دونالد ترامب ليقطف ثمار هذه الحالة، ويستثمرها وينجح في توظيفها في تحقيق إنجازات كبيرة جداً وغير مسبوقة على المستوى الاقتصادي. وكان من نتائج هذه الحالة فقدان قيمة المساواة بين المواطنين بريقها ومحوريتها؛ حيث أصبحت المواطنة لا تمثل قيمة في ذاتها، وإنما تستمد قيمتها من الأصل العرقي للمواطن.
وأخيراً جاءت انتخابات 2020 التي شهدت تشويهاً كبيراً ومفزعاً للنموذج الديمقراطي الأمريكي، فالديمقراطية قيمة إجرائية؛ أي أن الديمقراطية تتحقق عبر مجموعة إجراءات، وهذه الإجراءات هي التي تعبر عن وجود الديمقراطية من عدمها، وتعتبر الانتخابات أهم هذه الإجراءات الديمقراطية، بل قد تكون هي الإجراء الوحيد الذي تتحقق من خلاله الديمقراطية بصورة كاملة.
لقد شهدت الانتخابات الأمريكية 2020 من الخلل والمخالفات ما ينال من جميع الإجراءات المتعارف عليها في التقاليد الأمريكية. فبداية من الحملات الانتخابية كان هناك خروج كبير عن التقاليد الديمقراطية الأمريكية؛ سواء في لغة الحملات الانتخابية، أو موضوعات المناظرات بين المرشحين التي لم تركز على العملية السياسية، بل على العكس ركزت على المسلمات، وشهدت من الاتهامات ما يخرج بها من حالة التنافس الشريف إلى مستوى السباب والشتائم، واللغة التي لا تليق بمن سيكون منهم من يقود الولايات المتحدة.
ثم جاءت إجراءات التصويت في الانتخابات، وتم تطبيق مجموعة غير منسجمة من طرق التصويت؛ من التصويت عبر البريد إلى التصويت المبكر، وأخيراً التصويت العادي يوم الاقتراع الرسمي، وكانت النتيجة أن نصف عدد المصوتين مارسوا هذا الحق من خلال البريد وهنا ظهرت العديد من الاتهامات والشكوك، منها تصويت الموتى أو التخلص من الأصوات التي تأتي من مناطق معارضة في رأي المتنفذين في تلك المناطق والأحياء، ثم استخدام وسائل تصويت آلية متنوعة بعضها باللمس وبعضها عبر مفاتيح وأخرى بالضغط، وكل واحدة لها برنامج مختلف.. إلخ. وهنا أيضا تم توجيه اتهامات عديدة تقترب بأمريكا من ممارسات دول العالم الثالث.
وأخيراً جاءت لحظة فرز الأصوات وإعلان النتائج، وهنا شهد العالم كم اللغط والاتهامات، وحالة الارتباك التي صاحبت عملية فرز الأصوات. لقد شهدت هذه العملية قدراً من التشويش والارتباك لا يختلف كثيراً عما يشهده العالم في ديمقراطيات العالم الثالث الناشئة. أما إعلان النتائج فكان مفاجئاً، فقد أعلنها الرئيس الفائز والإعلام المؤيد له، ولم تعلنها الجهات المخولة قانونيًّا بهذا الدور، وهي المجمع الانتخابي، وفي الوقت نفسه لم يقبل المرشح الخاسر النتيجة كما تقتضي العملية الديمقراطية، وطعن في العملية برمتها، معتبراً إياها سرقة لِحقّه في الفوز.. بعد كل ذلك يثور السؤال: ماذا بقي من الديمقراطية الأمريكية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة