فور الإعلان عن فوز بايدن كثر التخويف منه بل ومن الديمقراطيين، وفي ذاكرة أصحاب هذه الرؤية الخائفة، ما فعله أوباما في ولايته الثانية.
بمجرد أن أوشك الفرز على الانتهاء في ولاية بنسلفانيا "بدأ التخويف من فوز بايدن"، كان "بايدن" يملك 253 صوتا قبل تلك الولاية الحاسمة، وبمجرد أن وصل الفرز إلى 96 في المائة أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية الفوز بالعشرين صوتا التي تضمنها الولاية لمن يفوز بها، بذلك امتلك بايدن 274 صوتا من المجمع الانتخابي أي بزيادة ثلاثة أصوات عن النصاب المطلوب للفوز.
ما كان لوسائل الإعلام الأمريكية بكل أشكالها المرئية والمسموعة والمكتوبة أن تعلن ذلك لولا توفر المعايير والثوابت، لأن المنظومة الإعلامية الأمريكية رغم ما بها من حرية فهي منضبطة في التعامل مع ما يتعلق بالقيم الأمريكية المتعلقة بقضايا الأمن القومي الأمريكي.
كان اللافت أن "فوكس نيوز" المملوكة لـ"ميردوخ" الصديق القوي لترامب كانت من وسائل الإعلام التي بشرت بفوز "بايدن" رغم ضغط ترامب وصهره عليها، لكن ميردوخ بخبرته الإعلامية الكبيرة يعرف جيدا أن الولاءات الإعلامية مهما زادت في إخلاصها لا يمكن أن تقف أمام الحقيقة، فلا يمكن لأي وسيلة إعلامية أن تغير النتيجة، قد تسهم في تكوينها عبر المساهمة في الحملة الانتخابية وتوجيه الناخبين لكنها تقف عاجزة في لحظة إعلان الفائز.
ليس "ميردوخ" فقط الذي تخلى عن دعم "صديقه ترامب" وإنما كثيرون فعلوا ذلك، وقد لا يكون تراجعا في الدعم وإنما إعادة تدوير فهم المصالح لما بعد ترامب.
فور الإعلان عن فوز "بايدن" كثر التخويف منه بل ومن الديمقراطيين، وفي ذاكرة أصحاب هذه الرؤية الخائفة، ما فعله أوباما في ولايته الثانية، وما أعلنت عنه المرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون في 2016 في مواجهة ترامب.
أوباما الديمقراطي كان رئيسا لولايتين من 2009 حتى 2016، وكان بايدن الرئيس المنتخب الآن نائبا لأوباما.
ومن هذه التركيبة يأتي خوف الخائفين، أوباما حتى لو غير موجود في البيت الأبيض كرئيس لكن فكره موجود، وتأثيره قائم، وقد يعاد تطبيق ما تمناه ولم يفعله، أو ما فعله ولم يكمله.
معادلة "أوباما - بايدن" السابقة هل من الممكن أن تعود الآن في صورة إعادة الترتيب، بايدن أولا ثم أوباما؟ هل يعقد شبح السياسات المضرة لأوباما، ترتيب العلاقة بين الرئيس الجديد وبين بلادنا العربية خصوصا مصر ودول الخليج؟
كثير من الكتابات التي تابعتها الأيام الماضية تصب في هذا الإطار وتستند إلى رؤيتين:
الأولى موقف "سياسة أوباما السابقة تجاه إيران"، حين وقع معها الاتفاق الإيراني النووي 2015 وسمح للنظام الإيراني بالحصول على عدد ليس بقليل من المليارات، كلها كانت القبلة التي أعادت بسط سلطة المليشيات الإيرانية في المنطقة، وكان أكبر المستفيدين "قاسم سليماني"، فالفترة الذهبية له جاءت بعد 2015، حيث أعاد نشر وتأسيس المليشيات في العراق واليمن وتقوية ما هو موجود في لبنان.
وكانت الدول العربية أكبر الخاسرين، أوباما لم يكن لديه المبرر في الانفتاح غير المدروس مع إيران، بل لم تكن لديه جرأة المناقشة.
جاء ترامب وانسحب من هذا الاتفاق في 2018 وبدأ سياسة الضغط القصوى تجاه النظام الإيراني، تم خنق منظومة المليشيات وقتل قاسم سليماني.
بدأ العراق يتنفس حرية ومعه لبنان، حين انطلقت الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019، ثمة إرهاصات للتغير ما كان لها أن تحدث لولا قتل يد الشيطان وتجفيف التمويل الفارسي.
كل هذا المنجز أو المخاض هو نفسه الذي يشكل عامل الخوف من بايدن، لأن يد الأستاذ "أوباما" قد تشبه يد "بايدن" أو العكس.
فهل سيعود الملف الإيراني ومعه دول المنطقة المتضررة من سياسات نظام الملالي إلى الوراء خمسة أعوام سابقة؟ هل سيعود الكابوس وتزال قيود تصدير الأسلحة مرة أخرى إلى النظام الإيراني؟
كثير من المعاهد المتخصصة التي أصدرت أوراقا بحثية سريعة لتلاحق فكرة الخوف هذه تؤكد أن هذا لن يحدث، وأن السيناريوهات السياسية في الحكم لا تتكرر وإن تكررت فهي لا تتكرر بكامل تفاصيلها، حتى لو كان الحاكم هو ابن حاكم سابق، فالابن لم يكرر سياسة أبيه، ولنا عبرة في فترة حكم بوش الأب منذ 1989 حتى 1993، وبوش الابن التي امتدت من 2000 حتى 2008، فلم يكن الابن كأبيه، رغم أن بصمة الأبوة وبصمة الحزبية متوفرتان فكلاهما جمهوري، وبصمة التأثير أيضا، إلا أن بوش الأب رغم أنه كان على قيد الحياة وقتها لم يستطع أن يضع تأثيره على فترة على حكم ابنه.
ببساطة لأن أمريكا دولة تعتمد على المؤسسات، والاستراتيجيات طويلة الأمد، فهناك ٤ بصمات مؤثرة في اتخاذ القرارات السياسية أو التنبؤ بالاتجاه العام لأي مرحلة حكم في أمريكا:
أولا: بصمة الرئيس الذي يحكم
ثانيا: بصمة الحزب الذي يحكم
ثالثا: بصمة المؤسسات الحاكمة
رابعا: وهذا هو الأهم التحديات والتوجه والقيم الأمريكية
وفي الأربع بصمات سيكون التأثير الأقل للرئيس، فهو محكوم بكثير من الكوابح، كابح الصلاحيات، وكابح المؤسسات الأخرى التي هي شريكة في الحكم، والمؤسسة العسكرية، والمؤسسة التشريعية بغرفتيها، ومؤسسة الرئاسة التي يجلس على سدتها الرئيس.
المعيار الرابع هو الأهم لأنه يستند إلى تغير الزمن وتغير المؤثرات، فالزمن الذي سيبدأ من 2020 ويمتد إلى 2024، أو 2028 إذا أكمل ولايتين أكيد مختلف عن زمن 2009 و2016.
ما كان مدرجا على أجندة المصالح الأمريكية والتحديات اختلف تماما، إيران جزء من هذا المتغير ليس في الأجندة الأمريكية فقط وإنما في الأجندة الإيرانية نفسها، النظام الإيراني نفسه اختلف، تغير لأن الشعب المحكوم تغير فعدد الثورات والاحتجاجات في الشارع الإيراني، زاد بدرجة يمكن القول إن هناك ثأرا حقيقيا بين الشعب وحكامه، ما قد يجعل إيران نفسها على فوهة بركان انفجار.
الديمقراطيون وبايدن قد يعيدون الانضمام مرة أخرى إلى الملف الإيراني النووي، لكن ليس بالتصور الذي يروج له البعض، إنما العودة ستكون مضبوطة، بل ومحكومة بمعايير قد تكون أكثر قسوة من "ترامب".
لن تُزال عقوبات بل ستستمر بوتيرة أقل لأنها وصلت إلى أقصى درجاتها، وليس هناك ما هو أقصى ليفرض.
بايدن إذا أعاد انضمامه إلى الاتفاق الإيراني، سيكون ذلك بسبب رغبته في التواصل والتنسيق مع الغرب ليضمنهم في صراعه مع الروس، وبالتالي قد يسلمون الوكالة الدولة للطاقة الذرية إدارة الملف، والإدارة ستعيد المشروع الإيراني وما تم تجاوزه إلى ما قبل 2016، أي سحب اليورانيوم الذي تم تخصيبه، ووقف المفاعلات التي بدأ البناء فيها من جديد.
الأهم وهو المطلب الأوروبي، المتمثل في السيطرة على تصنيع الصواريخ الباليستية الإيرانية، المؤثر الأكبر هو أن النظام الإيراني سيكون على موعد مع تغيرين كبيرين الأول: أنه سيشهد انتخابات رئاسية إيرانية العام المقبل، والآخر: أن النظام أصبح جاهزا لتقديم تنازلات جذرية تتعلق بمشروعه التوسعي في المنطقة، قد يقدم على سحب ميلشياته أو تفكيكها لا لأنه طيب، إنما لأنه أصبح غير قادر على الإنفاق عليها، أيضا قد يجمد مشروعه النووي بشكل غير مباشر.
ما كان للنظام الإيراني أن يتنازل عن كل هذه الثوابت الخاصة به لترامب، لأنه دخل معه في لعبة التحدي، والكرامة الإيرانية، وإنما سيصبح جاهزا لتقديم أكثر من هذا كله لأي شخص آخر أو أي نظام آخر ليس فيه ترامب حفظا لماء الوجه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة