استقلال الجزائر.. عين على المستقبل وأخرى على ألغام الماضي
خبراء يؤكدون على اختلاف ذكرى استقلال الجزائر هذا العام، ويستشرفون مستقبل البلاد على ضوء تحديات ورهانات داخلية وخارجية.
احتفلت الجزائر، الأحد، بالذكرى الـ58 لنيل استقلالها عن فرنسا بعد 132 سنة من الاستعمار، الذي خلف أكثر من 8 ملايين شهيد وأكثر من 6 ملايين لتر من الدماء وملفات ذاكرة وجرائم يقول الجزائريون "إنها لا تسقط بالتقادم".
وذكر خبراء وباحثون جزائريون لـ"العين الإخبارية" أن لذكرى هذا العام دلالات مختلفة، حملت في طياتها بوادر إصلاح شوائب الماضي البعيد والقريب منه، يقوده "قطار تغيير جديد يسير ببطء لكونه مثقلاً بندبات الاستعمار وكدمات نظام بوتفليقة".
قطار – يقول الخبراء – إن نقطة بدايته ونهايته معلومة، لكن المجهول فيه هو المسار الذي اختارته سلطة جديدة منتخبة، حمّلته بإرث الماضي الاستعماري البعيد وألغام نظام سابق قريب أهدر من الأموال والطاقات والأخلاق السياسية، وزرع ألغاماً سياسية واقتصادية واجتماعية، ما قد يجعل مهمة الرئيس عبد المجيد تبون الأكثر تعقيداً بين من سبقوه في قصر "المرادية" الجمهوري.
ويأتي احتفال الجزائر بعيد استقلالها هذا العام، في ظل متغيرات وتحديات ورهانات اقتصادية وسياسية وإقليمية مختلفة عن الأعوام الماضية، فرضت عليها رسم خارطة الخروج من "قوقعتها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية".
وهي الخارطة التي قال عنها مسؤولون جزائريون إنها "قد تضمن ربما تحريرها من ضرورات أمنية وعسكرية، وفخاخ ثغرات هوياتية وفراغات دستورية، وإحراجات تبعية مطلقة للمحروقات ولمستعمر الأمس".
نصر تاريخي
وأجمع المحللون السياسيون في تصريحاتهم لـ"العين الإخبارية" على أن لذكرى استقلال الجزائر هذا العام دلالة رمزية مختلفة عن الأعوام الماضية، بعد استرجاعها رفات 24 من شهداء المقاومات الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي كانوا في متحف "الإنسان" بباريس.
وقال الباحث والمؤرخ الدكتور أمين بلغيث، في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن "الاحتفال بذكرى الاستقلال هذا العام بالنسبة لي الذي لم يجدوا ولم يبحثوا عن جثة والده الشهيد خلال فترة الاستعمار، يشبه الاحتفال بيوم الاستقلال عام 1962، ومن شاهد أسراب الطائرات التي تصاحب طائرة إيركول التي حملت رفات الشهداء وهي تعبر أجواء المتوسط والطريقة التي أنزل بها الحرس الجمهوري هؤلاء الشهداء لا يمكنه له إلا أن يذرف الدموع، وإذا لم يبكي عليه أن يجري اختبار DNA حتى يتأكد إن كان جزائرياً أم لا".
أما المحلل السياسي الدكتور عبد الرحمن بن شريط فيرى بأنه "كان من المفروض أن تكون طريقة الاحتفال بذكرى الاستقلال هذا العام هي نفسها في الأعوام الماضية بشكل يبعث على الافتخار والاعتزاز والشعور بالمسؤولية، لكن للأسف منظومة العصابة التي كانت حاكمة لا يمكنها أن تحتفل بهذا الشكل، لأنها لا تحمل في جيناتها وأفكارها وضمائرها الهم الجزائري خاصة فيما يخص إحياء الذاكرة وربط الحاضر بالماضي وتقديم نماذج جميلة للأجيال القادمة".
وأضاف أن "الاحتفال هذا العام لم يكن رمزياً، بل كان حقيقياً ومتميزاً لم يقتصر على الشعارات والخطب، وتم بشكل فيه الكثير من الزخم والعمق بإرجاع رفات الشهداء، خصوصاً وأن استرجاعها كان من بين الوعود التي قدمها تبون في برنامجه الانتخابي".
ونوه بأن "الأجيال الحالية بحاجة إلى تلك العبر والدروس، فالشباب لا يعرف أبطاله وتاريخه، رغم أنه يريد أن يفتخر بوطنه، لكن لم تعط له أدوات الفخر والاعتزاز، فهو كان يعتز بأمور أخرى وأراد يصنع لنفسه مجدا آخر، ونحتاج اليوم إلى وقت طويل للتخلص من كابوس إرث النظام السابق، وبدأت بوادر الصحوة تتحقق بهذا الزخم التاريخي الثقيل".
نَفَسٌ جديد
ويرى الدكتور بلغيث أن "التغيير بدأ مع انتخاب رئيس جديد للبلاد انتهى معه الفراغ الدستوري، وأرى أن تبون يمثل قاطرة وضعت على سكة قطار التغيير الذي انطلق منذ 6 أشهر، سواء اتفقنا أو اختلفنا معها لكن الجزائر دخلت في مرحلة انتقالية حقيقية، وسيعمل على تهيئة الأجواء لما تبقى من ولايته الرئاسية لمسار سلمي وانتقال سلس للسلطة السياسية بعد انتخاب برلمان شرعي".
مضيفاً أنه "في ظل هذا النفس الجديد بعد انتخابات ديسمبر 2019 وبالرغم من كل هذه التحديات من وباء كورونا والركود الاقتصادي الذي تعيشه كثير من دول العالم، إلا أن الجزائر متفائلة باحتياطي يكفيها لعام أو عامين، في وقت كنا نسمع في زمن العصابة أن الاحتياطي لا يكفي أسبوعاً".
عودة الطابع الثوري
وأشارت الدكتورة نجوى عابر المختصة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن لذكرى استقلال الجزائر هذا العام "الكثير من مظاهر الاختلاف وتبقى دائما بالرغم من الأعباء المالية الناجمة عن انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا التي شكلت عوائق للأداء الحكومي إلا أنها ذكرى مثلت منعرجاً ومظهراً إيجابياً كان الجزائريون بحاجة له".
مضيفة "أن استرجاع رفات الشهداء أعطى لهذه الذكرى زخماً روحياً كبيراً، شكلت ما يشبه اليقظة أو حركة روحية داخل الجماهير الشعبية التي خضعت إلى عملية اختراق وتخدير للوعي بفعل ما يعرف بالغوغائية السياسية وكانت عملية متعمدة منذ التسعينيات من خلال تصحير الساحة السياسية تماماً، لإخراج الجزائر من طابعها الثوري كمتغير أساسي ومحور استقطاب لجميع شرائح المجتمع الجزائري ومن كل مناطقه تحت راية واحدة".
وأضافت أن "استعمار الأمس لازال يمارس كل أنواع الاختراق لتشتيت وتفتيت هذا الشعب كما فعل بالأمس، من خلال طمس الهوية وتحريك شبكات من العملاء من أجل ضرب مؤسسات الدولة، وعمل على تفشي ظاهرة الغوغائية السياسية التي تمارسها كثير من الأحزاب والتي يراد بها إسقاط ثقافة الدولة وسلخ المجتمع الجزائري عن امتداده العربي والإسلامي".
الخاصرة الرخوة
كما قدمت الدكتورة عابر نظرة استشرافية لمستقبل الجزائر في ظل التحديات والرهانات الداخلية والخارجية المحيطة بها، ولفتت إلى أن "المشهد يبدو معقداً ويغلب عليه التجاذب داخلياً وخارجياً".
واستطردت قائلة: "على مستوى السياسة الخارجية فإن الجزائر متحكمة ولديها رؤية استراتيجية واضحة وتجلى ذلك في عودة الدبلوماسية الجزائرية في الملفات الحساسة سواء في مالي ومنطقة الساحل أو في ليبيا وغيرها، رغم وجود قوى دولية تتصارع في محيط الجزائر الإقليمي من أجل ضرب وحدتها".
غير أنها اعتبرت بأن الوضع الداخلي يبقى الأكثر حساسية خصوصاً ما تعلق بـ"استعادة ثقة المواطن" والتي وصفتها بـ"الخاصرة الرخوة"، وأن أكبر وأخطر التحديات التي ترتبت عن مرحلة النظام السابق "تصحير الساحة السياسية التي افتقدت إلى نخبة حقيقية تحصل على ثقة القاعدة الشعبية وقادرة على تبني مطالبه، وعوضتها ظاهرة الغوغائية السياسية".
وأشارت إلى أن "النقطة الأكثر حساسية هي إعادة بناء مؤسسات الدولة خاصة ما يتعلق بالأحزاب السياسية، بعد أن تمت عملية تفكيك للنخب السياسية، والقاعدة الشعبية لم يعد لها ثقة في النخب، وكفرت بالتمثيل النيابي والحزبي، ولو أنه كان للكثير من الأحزاب برامج حزبية فلم نكن لنصل إلى حافة الانهيار التام وخروج الجماهير إلى الشوارع متنكرة لهذه الأحزاب، وهذا دليل على فشلها التي استُعملت كأدوات لاقتسام الريوع وتنفيذ أجندات خارجية وهي نقطة الضعف والخاصرة الرخوة الذي أحدثته فترة النظام السابق".