مشروع تعديل الدستور جاء استجابة لمطالب "الحراك الشعبي" الذي اجتاح الجزائر من فبراير 2019، والذي أثمر عن انتخابات رئاسية.
في يوم 2 يوليو الحالي، أصدرت السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات في الجزائر بياناً بأن الاستفتاء على تعديل الدستور لم يعُد وشيكاً، وأنه ليس من أولويات المرحلة الراهنة، وذلك بسبب جائحة كورونا وتهديدها للصحة العامة، مما أدى إلى مراجعة الأجندة الرئاسية.
وعلى مدى الأسبوع التالي لصدور البيان، لم تتبلور ردود فعل أو مواقف واضحة من جانب الأحزاب والقوى السياسية تعليقاً على البيان. ربما بسبب اعتبارات الصحة العامة أو لبدء موسم الصيف والإجازات، وذلك باستثناء عدد من مقالات الرأي التي انتقدت بشكلٍ غير مباشر التأجيل وأشارت إلى إجراء استفتاءات دستورية في بلدان أخرى مثل ما حدث في روسيا.
ولكي نضع هذا البيان في سياقه، تجدر الإشارة إلى أن مشروع تعديل الدستور جاء استجابة لمطالب "الحراك الشعبي" الذي اجتاح الجزائر من فبراير 2019، والذي أثمر عن انتخابات رئاسية جرت في ديسمبر من نفس العام، وجاء أيضاً ثمرة استحقاق رئاسي، فقد وعد الرئيس "عبد المجيد تبون" في حملته الانتخابية بأن يتقدم بمشروع لتعديل الدستور خلال ثلاثة شهور من توليه منصبه، ولكن الظروف التي أحاطت بالبلاد حالت دون تنفيذ ذلك.
مشروع تعديل الدستور جاء استجابة لمطالب "الحراك الشعبي" الذي اجتاح الجزائر من فبراير 2019، والذي أثمر عن انتخابات رئاسية جرت في ديسمبر من نفس العام.
شكَّل الرئيس في 8 يناير 2020 "لجنة الخبراء" لإعداد مسودة مشروع تعديل الدستور، وانتهت اللجنة من إعداد "المشروع التمهيدي لتعديل الدستور" في 26 مارس ورفعته للرئيس. وبسبب وطأة انتشار فيروس كورونا، تأخرت الرئاسة بعض الوقت، ثم أعلنت المشروع في 7 مايو، ودعت الأحزاب والقوى السياسية والمجتمع المدني وأساتذة الجامعات والمؤسسات الإعلامية إلى إجراء حوار مجتمعي بشأنه، وتقديم مقترحاتهم بالإضافة والحذف وإعادة الصياغة للمواد المقترحة.
وبالفعل، دار حوار كبير هو الأول من نوعه عند مناقشة أي تعديل لدستور الجزائر منذ صدور أول دستور لها في عام 1963. وحتى الأسبوع الأول من شهر يوليو، تسلمت لجنة الخبراء حوالي 2000 مقترح. وتقوم اللجنة بتصنيف هذه المقترحات، وحذف المكرر منها، وإدخال التعديلات التي تراها مناسبة على المشروع، وذلك لرفعه إلى رئاسة الجمهورية. وبعد موافقة مجلس الوزراء، يقوم رئيس الجمهورية بتحويله إلى البرلمان بغرفتيه لمناقشة المشروع والمُصادقة عليه ثم إجراء استفتاء شعبي لإقراره، وذلك وفقاً للإجراءات التي نصَّت عليها المادة 208 من الدستور الحالي.
أثار نشر "المشروع التمهيدي لتعديل الدستور الجزائري" نقاشاً وجدلاً كبيرين، فهو من ناحية تضمَّن عديداً من المواد الجديدة التي تُحقق مطالب الحراك الشعبي، مثل عدم جواز استمرار الرئيس لأكثر من "عُهدتين" أي مدتين رئاسيتين متتاليتين أو منفصلتين، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية. واستبدل المشروع منصب الوزير الأول بمنصب رئيس الحكومة وعزز صلاحياته، وحدد "عُهدتين" لأعضاء البرلمان، كما أشار إلى قيام الجيش بمهام خارج الحدود بعد موافقة البرلمان.
ونص مشروع التعديل على تشكيل المجلس الأعلى للقضاء بدون عضوية وزير العدل والنائب العام، وإنشاء المحكمة الدستورية بديلاً عن المجلس الدستوري ومنحها صلاحيات جديدة. وفي مجال الحقوق والحريات، تضمَّن المشروع مواد تنصُّ على الحق في الحياة، والحق في التعويض عن التوقيف والحبس المؤقت بشكل تعسفي، وحماية المرأة من جميع أشكال العنف.
ومن ناحية أخرى، ثار خلاف حول بعض المواد مثل استمرار بقاء السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية، وحق الرئيس في اختيار شخص رئيس الحكومة بغض النظر عن توجُّه الأغلبية في البرلمان، وحق الرئيس في تعيين ثُلث أعضاء مجلس الأمة، والسماح لمزدوجي الجنسية بتولي المناصب العليا في الدولة.
وتعرضت "لجنة الخبراء" في يونيو لأزمة بسبب التصريحات التي أدلى بها "أحمد لعرابة" رئيس اللجنة إلى صحيفة (ليبرتي) التي تصدر باللغة الفرنسية، وجاء فيها أن الدستور يقوم على أساس مبدأ المواطنة "وبالتالي فإن عناصر الهوية يمكن إبعادها عن الدستور...، ومجتمعنا غير مستعد لهذا المفهوم من المواطنة، وبالتالي علينا التقدم بالتدريج وسترون أن هذه العناصر المكوِّنة للهوية ستختفي من الدستور مستقبلاً". أدت هذه التصريحات إلى ردود فعل شديدة، والتي اعتبرها كثيرون طعناً في الهوية الوطنية والدينية للجزائريين، وأن صدورها من رئيس اللجنة يمس شرعية مشروع تعديل الدستور نفسه.
وأظهر النقاش العام في الجزائر الاختلافات العميقة في وجهات النظر ما بين فريقين: الأول، يدعو إلى قطع الصلة تماماً بالنظام القديم ومؤسساته وفتح صفحة جديدة على أسس جديدة، وأنه لا يمكن القيام بتغيير حقيقي في ظل نفس الطبقة السياسية التي عملت مع الرئيس بوتفليقة وفي ظل البرلمان الذي انتُخب في عهده، وأن المشكلة في الجزائر لم تكن أبداً القوانين في حد ذاتها بل في الطريقة التعسفية التي طُبقت بها وأفرغتها من مضمونها.
أما الثاني، فيرى أن هذه القطيعة لا يمكن حدوثها في الواقع إذ أنها سوف تؤدي إلى "فراغ دستوري" و"فوضى سياسية"، وأن الأسلوب الصحيح هو تحقيق التغيير المنشود من خلال إصلاحات في الدستور والقوانين القائمة بشكل مؤسسي، واتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة الفساد وتحويل كل المتهمين به من رجال العهد القديم إلى المحاكمة أياً كانت مناصبهم ومواقعهم.
انتصر الجيش الجزائري الذي ظل القوة المنظمة الرئيسية في البلاد لرأي الفريق الثاني وبالنهج الدستوري المؤسسي في الإصلاح، وكان ثمرة ذلك الانتخابات الرئاسية التي جاءت بالرئيس تبون، والذي انتهج بدوره نفس السبيل في تعديل الدستور وغيره من القضايا العامة في الجزائر. ووفقاً له، فإن خطته كانت إجراء الاستفتاء في شهر يونيو، ولكن القيود التي فرضها الوباء حالت دون ذلك، وأنه يسعى لإجراء الاستفتاء في أواخر شهر سبتمبر أو أوائل أكتوبر من العام الحالي.
فهل يكون الاستفتاء على تعديل الدستور بداية للجمهورية الجديدة التي ابتغاها الحراك الشعبي، ووعد بها الرئيس تبون؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة