التماثيل هي رموز ونماذج للقُدوة السياسية والاجتماعية، ومكانتها مصونة طالما استمرت القيم الأساسية للمجتمع.
يدور الآن جدل فكري وسياسي صاخب في المملكة المتحدة والولايات المتحدة بشأن حُرمة التماثيل المُقامة في الميادين العامة. ومناسبة هذا الجدل أن المشاركين في مُظاهرات معاداة التمييز العنصري، التي اندلعت فى أعقاب مقتل المواطن الأمريكى جورج فلويد فى 25 مايو 2020، قاموا بتحطيم وتشويه بعض التماثيل التي ترمز لأشخاص من المدافعين والممارسين للتفرقة بين البشر. ومن ثَم، ينبغي إزالتها حتى لا نُعطي للشباب والأجيال القادمة صورة خاطئة عن تلك الشخصيات.
من أبرز هذه الأحداث في المملكة المتحدة، ما قام به المتظاهرون في مدينة بريستول من إسقاط لتمثال "ادوارد كولستون" من على منصته، وسحبه في الشوارع، والقذف به في البحر. وذلك لأنه كان أحد كبار تجار العبيد في القرن السابع عشر، وشارك في بيع ما يقرب من ثمانين ألف أفريقي في أمريكا، مما جعل من تمثاله رمزاً لتكريم تجار العبيد. في المُقابل، فإن هذا الرجل استخدم جزءاً كبيراً من ثروته في أعمال الخير والإحسان والمنافع العامة، مما دفع المجلس المحلي للمدينة في 1895 لاتخاذ قرار بإقامة هذا التمثال. لذلك، فإن سُلطات المدينة قررت سحب التمثال من المياه لترميمه وعرضه في متحف المدينة.
وفي مدينة مانشستر، انتقد المتظاهرون وجود تمثال رئيس الوزراء السير "وليام جلادستون" الذي تولى هذا المنصب أربع دورات لمدة خمسة عشر عاماً خلال الفترة 1868-1894. وذلك لأنه كان من المُعارضين لإصدار قانون لمنع العبودية. وطالب آخرون بإزالة تمثال "بادن باول" مؤسس حركة الكشافة الذي أقيم له في مدينة بورنموث عام 2008، لاتهامه بالعنصرية والتعاطف مع الفاشية والنازية.
ونشبت مواجهة عنيفة في العاصمة لندن بشأن تمثال رئيس الوزراء "ونستون تشرشل" الذي قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، وأحد عتاة السياسة البريطانية في القرن العشرين. فقد حاول بعض المتظاهرين تخريبه وتشويهه مما أثار غضب القوى المحافظة والتنظيمات اليمينية المُتطرفة، والذين تجمَّع أنصارهم من مساء يوم الجمعة 12 يونيو الماضي لحماية التمثال. ودفع ذلك الشرطة إلى تغيير مسار المُظاهرة المُعادية للتمييز العنصري المُزمع تنظيمها في اليوم التالي حتى لا تمُر بالقُرب من التمثال. ورغم ذلك، اندلعت أحداث عنف، وألقت الشرطة القبض على ما يقرب من مئة شخص.
التماثيل هي رموز ونماذج للقُدوة السياسية والاجتماعية، والتي تتناقل سيرة شخوصها الأجيال واحداً بعد الآخر، وتظلُ حُرمة هذه التماثيل ومكانتها مصونة طالما استمرت القيم الأساسية للمجتمع.
ومن هذه الأحداث في الولايات المتحدة التي انطلقت منها شرارة مُظاهرات "حياة السود مهمة"، إسقاط المتظاهرين لتمثال "جيفرسون ديفيس" في مدينة ريتشموند عاصمة ولاية فرجينيا وسط موجة من التهليل والتصفيق، وهو رئيس الاتحاد الكونفدرالي إبَّان الحرب الأهلية الأمريكية المؤيد لاستمرار العبودية ورفض تحرير العبيد. كما ندَّد المتظاهرون في مدينة ناشفيل بولاية تينيسي بوجود تمثال لـ"ادوارد كارماك"، وهو صحفي اشتهر بآرائه المؤيدة للتمييز ضد السود وانتُخِب عضواً بالكونجرس خلال الفترة 1901-1907.
وأحاطت المُظاهرات أيضاً بتماثيل لبعض الشخصيات البريطانية المقامة في المدن الأمريكية، مثل السير "فرانسيس ديريك" الضابط بالبحرية البريطانية وتاجر العبيد، والسيدة "نانسي استور" عضو مجلس العموم البريطاني خلال الفترة 1919-1945 لتعاطفها مع الأفكار النازية. ونال تمثالان للإيطالي "كريستوفر كولمبوس" حظهما من التخريب، ففي مدينة ريتشموند، أسقط المتظاهرون تمثاله وأضرموا فيه النيران ثُم ألقوا به في مياه المحيط الأطلسي، وفي مدينة بوسطن قطع المتظاهرون رأس التمثال.
ومع تصاعد حدة المواجهات والجدل بين ذوي الاتجاهات المختلفة، تم توظيف الموضوع سياسياً. فسارع أنصار الحزب الديمقراطي لتأييد مسيرات المُناهضين للعنصرية، ودعت "نانسي بيلوسي"، رئيس مجلس النواب إلى إزالة أحد عشر تمثالاً لقادة عسكريين شاركوا في الحرب الأهلية ضد تحرير العبيد، واعتبرت أن بقاء التماثيل "إهانة بشعة لمُثُل الديمقراطية والحرية". هذا في الوقت الذي تحفَّظ فيه الرئيس "ترامب" على هذه الأفكار، واعتبر أن هذه الشخصيات هي جزء من التاريخ الأمريكي. واتخذ "بوريس جونسون" رئيس الوزراء البريطاني موقفاً مماثلاً، فمع إعلان معارضته لكل أشكال التمييز العنصري، فإنه تحفَّظ على تحطيم أو تخريب التماثيل التي ترمز إلى شخصيات تاريخية، ووصف محاولات الاعتداء على تمثال تشرشل بأنها "سخيفة ومُخزية".
إن هذا الجدل يُثيرُ موضوعاً أعمق وهو دلالة التماثيل وتعبيرها عن الذاكرة التاريخية للشعوب. فالتماثيل لا تُقام لآحاد الناس وإنما للشخصيات التي تركت بصماتها الإيجابية في حياة المجتمعات، وساهمت في دفعها إلى الأمام. وهي ليست أمراً حديثاً، فنحْت التماثيل هو أحد الفنون التشكيلية التي عرفتها الحضارات من فجر التاريخ كحضارة المصريين القدامى والآشوريين والبابليين، ثُم في الحضارتين الإغريقية والرومانية وصولاً إلى العصر الحديث.
والتماثيل هي رموز ونماذج للقُدوة السياسية والاجتماعية، والتي تتناقل سيرة شخوصها الأجيال واحداً بعد الآخر، وتظلُ حُرمة هذه التماثيل ومكانتها مصونة طالما استمرت القيم الأساسية للمجتمع. وتظهر الأزمة عندما تتغيرُ هذه القيم بشكلٍ أساسي وجوهري كما حدث بالنسبة لموضوع العبودية والرق. فلمدة قرون طويلة، اعترفت هذه القيم بالعبودية كأحد النظم الاجتماعية القائمة والتي عرفتها معظم المجتمعات، ولم تكن وقتذاك محل رفض أو إدانة، حتى تغيرت الأمور في القرن التاسع عشر وظهرت الأفكار والحركات الداعية إلى المساواة بين البشر وإنهاء العبودية باعتبارها مظهراً بشعاً لعدم المساواة بينهم.
في هذا السياق، فإن الشخصيات التي تُجسِّدها التماثيل محل الجدل وتُخلِّد ذكراها، كانت محل تقدير واحترام في زمانها، ولكن بتغير الظروف أصبحت غير مُتناغمة بل ومتناقضة مع القيم السائدة الآن. وهذا ما يُفسِّر الخلاف بين موقفيْ بيلوسي وترامب، فأحدهما يعتبرها تمثيلاً للوحشية والبربرية، والآخر يتعامل معها كجزء من التاريخ. الأول يدعو إلى مراجعة التاريخ وتصحيح الذاكرة التاريخية، والثاني يقبله كما هو ويخشى إعادة فتح جراح الماضي وانقساماته.
ويترتب على ذلك، أن مكانة الشخصيات الكبرى في تاريخ أي مجتمع يُمكن أن تختلف من حقبة زمنية لأخرى، وبين شريحة اجتماعية وأخرى وخصوصاً في المجتمعات المُنقسمة عِرقياً وإثنياً والتي شهدت حروباً أهلية. ففي هذه المجتمعات، فإن الأبطال من وجهة نظر شريحة ما هُم مُجرمون وإرهابيون لدى شريحة أخرى. ومعنى ذلك، أنه لا توجد ذاكرة تاريخية مشتركة بين أبناء هذه المجتمعات، ويكون لكل شريحة تصوُّرها ومخيالها الخاص بها للتاريخ، وتتعدد "ذاكراتها" وفقاً لتلك الرؤى والتصوُّرات. ومن أمثلة ذلك في بلادنا العربية مثلاً، أنه لا يوجد كتاب تاريخ موحد يُدرَّس في كل المدارس في لبنان، وذلك لاختلاف الرؤى ووجهات النظر بشأن هذا التاريخ.
طالبت المظاهرات في كل مكان بإنهاء "التمييز المؤسسي" أو "التمييز البنائي"، ويقصدون بذلك أن الممارسات التمييزية استمرت كجزء من ثقافة وممارسات العديد من المؤسسات في الدول الغربية. فالتمييز لم يعد نتيجة لوجود قوانين غير عادلة، ولكن بسبب استمرار أفكار وعادات وتقاليد اجتماعية متأصلة. وتكمن هنا صعوبة محاربة هذا النوع من التمييز، فالأمر لا يتعلق بوجود قوانين ينبغي تغييرها كما كان عليه الحال في فترة الستينيات من القرن الماضي وقت صعود حركة الحقوق المدنية، وإنما يتعلق بسلوكيات ووجهات نظر تغلغلت في عقول الناس ونفوسهم، وهو ما يُمثِّل تحدياً أكبر لعملية التغيير.
في أمريكا، كانت القضية الرئيسية هي التمييز العنصري ضد السود ولكن سرعان ما اتسع مفهوم التمييز ليشمل مجموعات بشرية أخرى مثل الآسيويين في بريطانيا، والعرب في فرنسا، والسكان الأصليين في كندا ونيوزيلندا.
تعددت المجموعات البشرية التي استهدفها التمييز، وتنوعت وسائل التنديد به والاعتراض عليه، ولكن الهدف يظل واحداً، وهو المساواة بين البشر وتحقيق الأُخوَّة الإنسانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة