في الشرق الأوسط تبدو الجغرافيا السياسية في أكثر حالاتها عنفوانا وعنفا؛ وما كان قبل الكورونا ساخنا جاء بعدها بدخان وحريق.
في العلوم الاجتماعية والاستراتيجية هناك الكثير من الدراسات والبحوث والرسائل العلمية حول "الأزمة" ومراحلها وكيف تبدأ ومتى تصل إلى الذروة وما هو مسارها الذي تأخذه بعد ذلك وهل تأخذ النظام إلى الهاوية أو أنها تأخذ به إلى مستوى أعلى من التطور.
في كل الأحوال فإن الأزمة هي لحظة استثنائية تتزايد فيها الضغوط على النظام القائم، سواء كان هذا النظام في الأسرة أو في الدولة أو في الإقليم أو حتى العالم كله. وتاريخيا فإن الأزمات لها درجاتها، ولكنها لا تصير أزمة حقيقية ما لم تؤد إلى تغييرات في نظام عمل البيئة التي تحدث فيها إما بتسريع اتجاهات قائمة أو أنها تخلق اتجاهات جديدة.
وفي العادة فإن العملية العلمية لفهم الأزمات تبدأ بالتعرف على مراحلها المختلفة؛ وفيما يخص الأزمة العالمية الراهنة الخاصة بفيروس الكورونا فإن دراسات مختلفة تواضعت على وجود ستة مراحل للأزمة اختلفت فيما بينها في التوقيت والاتساع والانتشار على مستوي العالم، ومدى تأثيرها على دول العالم في قطاعات اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، وما سوف تفضي إليه بعد ذلك من عالم آخر.
المرحلة الأولى هي التي ظهر فيها الفيروس غير المعروف في البداية وموطنه الصين وحدها وفي مدينة ووهان تحديدا التي أخذت تدابير احترازية لتفادي انتشار الفيروس؛ بينما نظر لها بقية العالم على أنه ظاهرة صينية في ملامحها الاقتصادية والسياسية.
في الشرق الأوسط تبدو الجغرافيا السياسية في أكثر حالاتها عنفوانا وعنفا شاملة الإقليم كله؛ وما كان قبل الكورونا ساخنا جاء بعدها بدخان وحريق.
ومن الناحية الزمنية فإنه يمكن تحديد هذه المرحلة منذ اكتشاف الفيروس في شهر ديسمبر ٢٠١٩ وحتى منتصف فبراير من العام الحالي. وهنا بدأت المرحلة الثانية التي أخذ فيها الفيروس في الانتشار في أجزاء من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، واتخذت هذه البلدان تدابير احترازية طفيفة منعا لانتشار الفيروس في حين اتخذت الصين تدابير ضخمة وحازمة شملت منشآت الإنتاج والتعليم والانتقال بين الأقاليم.
المرحلة الثالثة بدأت تقريبا في منتصف شهر مارس وفيها تفاقمت الأزمة بامتداد الفيروس إلى أوروبا والشرق الأوسط مع تفش واسع النطاق في كل من إيطاليا وإيران، وبداية انتشاره في الولايات المتحدة وكندا.
في هذه المرحلة جرى اتخاذ تدابير احترازية قوية أثرت على اقتصاديات الدول كافة مع حظر رحلات الطيران الدولية، وإلغاء الفعاليات الكبرى مثل الدورة الأولمبية في اليابان. ولكنها كانت المرحلة التي أخذ فيها الفيروس في الانحسار في الصين وكوريا الجنوبية بفعل التدابير الوقائية التي تبنتها الحكومة.
المرحلة الرابعة انحسار الأزمة أو السيطرة عليها بدأت مع منتصف مايو حيث بلغ منحنى الأزمة ذروته ثم بدأ في الهبوط التدريجي في أوروبا والسيطرة عليه في كل من إيطاليا وإيران، وخرجت الصين وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية من الأزمة، ورغم استمرارها في الولايات المتحدة فإن تحسن الأحوال في العموم أدى إلى بدء استئناف التجارة في مناطق من العالم.
المرحلة الخامسة هي "التعافي" وهي ممتدة من نهاية يونيو الجاري وحتى نهاية العام، وفيها يكون التعافي كاملا في أوروبا والولايات المتحدة وشمال أمريكا في العموم، بينما تظل اقتصادات في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا الجنوبية دون تعاف كامل أو شامل مع احتمالات استئناف الفيروس لنشاطه مرة أخرى.
المرحلة السادسة والأخيرة وهي التي يعود فيها العالم إلى الانتعاش مرة أخرى نتيجة إلى: أولا التوصل إلى اللقاحات والأدوية اللازمة لعلاج المرض وتصنيعها وتوزيعها على العالم أجمع؛ وثانيا اتجاه العالم نحو التعاون من أجل تلافي الآثار الاقتصادية القاسية لفترة انتشار الفيروس وتأثيراته السلبية على الاقتصاد العالمي وحركة السياحة والاتصالات والمواصلات.
هذه المرحلة الأخيرة ربما تكون الأكثر أهمية بين المراحل المختلفة، فالمراحل الخمس الأولى شهدت وتشهد التعرف على الفيروس والسعي نحو إنتاج للقاحات والأدوية اللازمة، كما اكتسبت دول العالم المختلفة خبرة كبيرة في المواجهة والتنظيم في ظل ظروف متغيرة من بلد إلى آخر،
ومن مرحلة زمنية إلى أخرى. ولكن كل كذلك كان مناسبا على مستوى الدولة الوطنية التي كان لديها السلطة الكاملة للتعامل مع الوباء؛ ولكن معضلة المرحلة السادسة من الأزمة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحالة العالمية كلها، ومدى قدرة الدول على التعاون مع بعضها البعض في وقت جرت فيه العديد من التطورات الدولية الهامة.
أولها أن العالم بات مفتقدا للقيادة العالمية، فالولايات المتحدة لم تفقد الكثير من مكانتها نتيجة معالجتها الفقيرة للأزمة، أو لما جرى فيها من انفجار الأزمة العنصرية، أو لما تعيش فيه من أزمة اقتصادية طاحنة؛ وإنما أكثر من ذلك أن الولايات المتحدة تنسحب من العالم وتتخلى عن حلفائها التقليديين في أوروبا والباسفيك.
وثانيها أن أزمة الكورونا سوف تترك العالم وهو أكثر توترا مما كان عليه قبلها، وربما ترجع ظاهرة الصراعات المسلحة التي كان الشرق الأوسط استثناءها الوحيد لكي تنتشر في بقية أنحاء العالم.
دوليا استأنف البناء الثلاثي للدول الأعظم الولايات المتحدة والصين وروسيا تحركاتهم، فحاولت الأولى أن تجذب روسيا إلى مجموعة الدول السبعة مرة أخرى. والثانية نشطت عالميا بالقدر الذي يجذب دول أخرى إلى الطاقة الاقتصادية العملاقة لبكين وفي المقدمة منها روسيا، وخرجت الصين من الأزمة بينما لا تزال الولايات المتحدة غارقة فيها وشروخها السياسية تتكاثر.
والثالثة لا يوجد لديها ميل للذهاب إلى مجموعة لا تزال تقودها الولايات المتحدة، ما لم تحل مشكلتها مع أوكرانيا، وعلاقة دول أوروبا الشرقية بحلف الأطلنطي. قد يكون الاتحاد السوفيتي قد سقط، ولكن الجغرافيا السياسية لروسيا لم تتغير، وشرق أوروبا منطقة أمن قومي روسي.
التوترات بين الصين والهند تصاعدت في اشتباك مسلح، كما أن التوتر العسكري عاد مرة أخرى إلى الحدود بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية؛ وقبل ذلك عاد التوتر بين الهند وباكستان حول المشكلة الأزلية لجومو وكشمير.
في الشرق الأوسط تبدو الجغرافيا السياسية في أكثر حالاتها عنفوانا وعنفا شاملة الإقليم كله؛ وما كان قبل الكورونا ساخنا جاء بعدها بدخان وحريق. وعندما حاولت الأمم المتحدة أن تستغل الفرصة وتدعو إلى وقف القتال في الصراعات الدولية بما فيها الشرق أوسطية فإنها لم تجد آذانا صاغية اللهم إلا ممن أرادوا هدنة لالتقاط الأنفاس استعدادا لجولات أخرى من القتال.
فالأزمة السورية ظلت ملتهبة بين الأطراف الإقليمية المشاركة مثل تركيا وإيران، أو الدولية المتداخلة مثل الولايات المتحدة وروسيا، وما زاد عليها أثناء طغيان "الكورونا" هو أن توترا جرى بين سوريا وروسيا، وبين هذه الأخيرة وإيران، واستخدمت تركيا حالة الأزمة في نقل مقاتلين إرهابيين إلى غرب ليبيا فاستحكمت أزمتها هي الأخرى في مواجهة ساخنة نقلت الحرب من غرب ليبيا إلى وسطها.
الأزمة اليمنية ظلت ملتهبة. وتصاعدت التحركات الإسرائيلية نحو ضم أراض فلسطينية، ولم تنجح مصر والسودان وإثيوبيا في التوصل إلى اتفاق حول استخدامات سد النهضة الإثيوبي وهي حالة منذرة.
الخلاصة أنه من الممكن أن يصل العالم إلى المرحلة السادسة وهو منهك وأقل ثروة وأكثر توترا، وهو ما يستدعي ترتيبات عالمية جديدة خاصة وأن الترتيبات القائمة، التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لا تبدو جاهزة للتعامل مع مشكلات ومعضلات عالمية جديدة كما جرى مع منظمة الصحة العالمية، والعجز الظاهر للأمم المتحدة في التعامل مع المشكلات العالمية المعاصرة.
الخروج من أزمة الفيروس بات ممكنا، ولكن القضية باتت ما هو العالم الذي سوف نجده بعد الشفاء من المرض؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة