الظواهر كلها، الطعام السريع والسفر إلى الفضاء والصعود الصيني والبلاستيك والنفط والروبوت، خلقت إشكاليات إنسانية كبرى
الغالب على تأريخ التاريخ الإنساني، هو تسجيل الأحداث الكبرى للحروب الأهلية والعالمية والثورات الإنسانية وأحيانا شخصيات مؤثرة مثل الأنبياء والرسل، وفي التاريخ الحديث نابليون ولينين وتروتسكي وستالين وبالطبع هتلر؛ كما فيها بيل جيتس وستيف جوبز ومارتن لوثر كينج. تاريخ الفكر الإنساني يبدأ كثيرا من أفلاطون وأرسطو ويستمر حتى فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنجتون؛ أما الحضارات فتبدأ من سومر ووادي النيل حتى نصل إلى الحضارة الغربية الحديثة التي كانت خلاصتها عولمة الكرة الأرضية والتي تتعرض لتحدٍ كبير من "كوفيد-١٩"، الفيروس التاجي الذي وضع العالم في أصعب اختباراته. ولكن هناك طريقة أخرى لمعرفة التاريخ تأتي من خلال محركاته، أو الطفرات الكبيرة التي نتجت عن أمور مركزية لا تلبث حلقاتها أن تتسع وتدور لكي تخلق نقلات كبرى في الزمان البشري. عرفت ذلك من كتاب قرأته عام ٢٠١٤ "كيف جئنا إلى الآن أو How We Got to Now" الذي ألفة "ستيفن جونسون". العنوان يخص البشرية، أو بشكل أدق العالم المتقدم منها، وكيف وصل إلى هذه الدرجة من العلو والرقي المادي والمعنوي، السياسي والاقتصادي، والأخلاقي والسلوكي. لم يكن حال البشرية هكذا كما نعرفه الآن، وإنما كان متخلفا وبدائيا، ومع ذلك وربما قبل عشرة آلاف عام، بدأت الدنيا، خطوة بعد خطوة، تتقدم حتى وصلنا إلى ما نحن فيه. واختار المؤلف طرقا غير تقليدية لرسم هذا الطريق من خلال متابعة ستة أمور: الزجاج، البرودة، الصوت، النظافة، الزمن، الضوء؛ وخلص منها جميعا إلى أن مسيرة التطور أو ما سماه "مسافرو الزمن "Time Travelers حققوا ما حققوه من خلال طريقين: الأول الذي جاء من ذلك التراكم البطيء من إنجاز هنا وتطور هناك حتى يأتي من يجمع هذه التطورات كلها في قفزة جديدة للإنسانية؛ هكذا فعل توماس إديسون مع المصباح الكهربائي، وستيفن جوبز مع الكومبيوتر. أيا منهما لم يخترع شيئا، ولكنه رأى ما الذي يمكن أن تصل إليه مخترعات الأخرى. والثاني الاختراع والابتكار والإبداع على طريقة "وجدتها"- "يوريكا"- الذائع ساعة الوصول إلى واحدة من أسرار الكون.
لم يكن حال البشرية هكذا كما نعرفه الآن، وإنما كان متخلفا وبدائيا، ومع ذلك وربما قبل عشرة آلاف عام، بدأت الدنيا، خطوة بعد خطوة، تتقدم حتى وصلنا إلى ما نحن فيه.
سوف أضرب مثلا بالزجاج الذي بدأ بحدث هام جرى منذ ٢٦ مليون عاما عندما اصطدم "نيزك" أو "كويكب" أو شيء ما جاء من الفضاء بكوكب الأرض عند الصحراء الليبية، مولدا قدرا هائلا من الحرارة تزيد على ٥٠٠ درجة فهرنهايت، فما كان من الرمل إلا أن تحول من حالته الصلبة إلى حالة سائلة عندما انخفضت حرارتها لم تعد رملا مرة أخرى، وإنما صارت زجاجا. مثل ذلك لا يحدث في الماء الذي يتبخر عند درجة حرارة بعينها، ويتجمد عند أخرى، ولكنه في الحالتين يمكن للبخار أن يتكثف بالبرودة فيصير ماء، أو يتحلل الجليد الصلب بالحرارة فيعود ماء مرة أخرى. هذا ليس حال الرمال أو ما تسمى علميا "السليكون" ويشتق منها أكسيد السليكون Silicon Dioxide، فهو يتحول ويتغير، وبعد أن قام الرحالة والمسافرون باكتشافه بدأت المسيرة من صحراء ليبيا حتى وجدناه على صدور فراعنة مصر قلائد وتيجانا. وربما كان أشهرها تلك الأيقونة التي وُجدت في شكل "بروش" على صدر توت عنخ آمون، عند الكشف عن مقبرته عام ١٩٢٢ في شكل "خنفسة" زجاجية، ربما تكونت قبل عشرة آلاف عام. "السليكون" الآن هو مادة أساسية في أجهزة الكمبيوتر والتليفونات والموصلات والألياف الحرارية، هو باختصار مكون رئيسي من مكونات التقدم.
على نفس المنوال فإن "نتفليكس" الشبكة الدولية للأفلام والمسلسلات والوثائقيات، وذائعة الذكر هذه الأيام وكثيرة الغنى بسبب إقبال ملايين البشر في قارات العالم الست على منتجاتها في أوقات حظر الفيروس "كوفيد- ١٩"، دخلت إلى التاريخ من زاوية المحركات الكبرى التي تلقي بتأثيراتها على عالمنا المعاصر. هي حالة ممتدة وليس حدثا كبيرا، بمعنى آخر هي مجمع أحداث توالت وامتدت تأثيراتها إلى العالم أجمع ليس مثل الحروب العالمية، وإنما بطريقة أخرى لأنها تنفذ إلى المجتمعات والنظم السياسية والاقتصادية. هي تعبير كبير عن تكنولوجيا العصر وكيف ينتقل الزمن، التاريخ، من نقطة إلى أخرى. الدراما فيها ليس فقط تحدي الزمن، أو المنافسة، ولكن كيف تولد الحالة، الظاهرة، نقيضا أو نقائض لها، لا تلبث أن تتوحد في تركيبة جديدة فيها الكثير الذي يمثل تقدما للعالم. "نتفليكس" تأخذ أمثلة أخرى غير تلك اتخذها "ستيفن جونسون" بادئة من ظاهرة الطعام السريع أو الغذاء الفوري وباختصار ما هو معروف باسم Fast Food ثم تدلف إلى الذهاب إلى الفضاء خارج الكرة الأرضية، ومن بعدها "البلاستيك" الذي لم يكن موجودا في الطبيعة من قبل، وإنما تم تركيبه من قبل الإنسان، وارتفاع شأن الصين في العالم وفي العلاقات الدولية، والنفط وما أثر به في العالم والشرق الأوسط خاصة، و"الروبوت" الذي هو نتيجة للتاريخ العالمي السابق، ولكن المرجح أنه سوف يكون عنوانا للتاريخ الإنساني القادم.
"الطعام السريع" بات حاضرا أولا في الحياة الأمريكية اعتبارا من عام ١٩٢٠، ومعه بدأ حديث السرعة في كل شيء مع المركبات والسيارات والقطارات ووسائل الاتصال التي بمعايير العصر بالغة السرعة. خرج الطعام من مخبئه البطيء في المنزل إلى ساحات العمل العامة لأول مرة، عندما جرى اختراع تضع فيه النقود فتأخذ طعاما ساخنا. وفي عام ١٩٢١ دخل "ماكدونالدز" إلى الساحة بمفاهيم جديدة لسرعة إنتاج الغذاء ومن بعده توالت سلاسل كثيرة أخرى مثل "ويندي" و"بيرجر كينج" وكلها دارت حول "الهامبرجر" والبطاطس و"الكوكاكولا"؛ تفرعت عن ذلك سلاسل كثيرة مثل "كنتاكي فرايد تشيكين" و"بيتزا هت" و "ستاربكس". وبينما لم تعد هناك مدينة أو حي في الولايات المتحدة خالية منها، فإنها جميعا أخذت في الانتشار في العالم كله، وحاليا فإن "ماكدونالدز" يوجد في ١٨٥ دولة في العالم، وعندما وصل إلى موسكو عاصمة القطب الآخر من العالم، كانت الطوابير ممتدة أمامه إلى عدة كيلومترات، كانت الحرب الباردة قد انتهت. ومما أعطى إشارة على العولمة أن "بيتزا هت" أرسلت البيتزا إلى المحطة الفضائية الدولية العالمية التي تتعدد فيها الجنسيات في رسالة تكلفت مليون دولار.
الظواهر كلها، الطعام السريع والسفر إلى الفضاء والصعود الصيني والبلاستيك والنفط والروبوت، خلقت إشكاليات إنسانية كبرى من أول تشكيل الخطر على الكرة الأرضية كلها، سواء بما تتركه من نفايات غير قابلة للتحلل أو تدمير الغلاف الجوي أو خلق سباقات للتسلح سببت حروبا باردة بين دول كبرى؛ أو تدمير الإنسان نفسه من خلال أمراض مثل "السمنة"، أو البطالة إذا ما بات الروبوت والآلات مهيمنة على سوق العمل حتى يصبح الإنسان بلا عمل، أو أن ينتهي الصعود الصيني إلى حرب باردة جديدة، منذرة بسباقات في التسلح وحروب بالوكالة وصدامات نووية. ولكن كل هذه الأخطار ربما تكون مفتاح التقدم لأنها هي التي فرضت العمل من أجل الغذاء الصحي، والبحث عن مصادر الطاقة المتجددة، واستخدام الفضاء لبناء شركات وأقمار الاتصال، والبحث العلمي في باكتيريا تتخلص من النفايات البلاستيكية، ويكون الاتفاق مع الصين سبيلا إلى عولمة من نوع جديد أكثر فائدة ومساواة لسكان كوكب الأرض.
الكتاب يستحق القراءة، والمسلسل يستحق المشاهدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة