العالم يعيش الأزمة وبعد ستة شهور من بدايتها يبدو أن العالم قرر التعايش مع المرض حتى ولو أدى الأمر إلى نوع من المعتاد الجديد
شاع في كتابات علم النفس أن الإنسان عندما يواجه أزمات كبرى مثل المرض العضال أو فقدان عزيز لديه أو "الخروج إلى المعاش" أو انهيار في الثروة الخاصة فإنه يمر بمراحل خمسة: أولها الإنكار الذي يرفض وجود الأزمة من الأساس، وأنها نوع من الوهم المبالغ فيه، وربما أن الأمر مدسوس أو ناتج عن مؤامرة سرية لبث اعتقاد في وجود كارثة ليست موجودة من الأصل. وثانيها الغضب من الأقدار المعاكسة التي تختص شخصا بعينه بكوارث غير متوقعة ومفاجئة وفيها من الشيطان مس، وأن الأمور لو ظهرت على حقيقتها سوف تمر العاصفة وتنصلح الأمور. وثالثها المساومة والتفاوض مع موضوع الأزمة وعما إذا كان ممكنا أن تمر بسهولة ويسر، أو أن تكون أقل ألما مما هو متوقع. ورابعها الاكتئاب الذي ينعى فيه الإنسان ذاته، وما ورد إليه من نصيب قاس، وكأن ذلك نوع من القضاء الصارم والأقدار النافذة والتي لا رد لها ولا هروب. وخامسا القبول بما جرى والتعايش معه إذا كان ذلك ممكنا، أو الاستعداد للسير في طريق النهاية الحتمية.
بعض من هذا حدث في تعامل العالم مع أزمة فيروس الكورونا أو "كوفيد- ١٩"، فقد تساهلت الصين في البداية، وكان هناك إنكار لخطورة الأمر خلال شهر ديسمبر، وعندما شاع الأمر وانتقل إلى دول العالم فإن كثيرا منها تعامل مع الموضوع على أنه "Hoax" على حد تعبير الرئيس ترامب يقوم به الأعداء في الداخل والخارج.
الغضب جاء بعد ذلك عندما خرجت من دول العالم المختلفة أشكال مختلفة من المؤامرات كانت من الإعلام العالمي والرأسمالية المتوحشة والصين على أمريكا، وأمريكا على الصين، مع أشكال من مؤامرات الماسونية والصهيونية العالمية. والمساومة والمفاوضات بدأت عندما أدرك العالم أن الأزمة جد خطيرة، فبدأ إدراك أن الأوضاع تسوء، وأن الأمر يستدعي تعاونا دوليا ثنائيا أو متعدد الأطراف مع تأكيد كل دولة على قدراتها غير العادية لكي تقود مسيرة الكفاح ضد البلاء الكبير. الاكتئاب لم يعد منه بد عندما ظهر أن الوباء أصاب ملايين البشر وقتل مئات الألوف وأخذ الاقتصاد العالمي إلى أسفل السافلين حيث البطالة والكساد الرهيب. والقبول بالأزمة جاء عندما بات الشعار العالمي هو التعايش مع الفيروس طالما أنه لا يوجد لا لقاح ولا دواء وإن انتاجهما لن يكون ممكنا إلا في العام القادم.
ما فات على هذه المراحل المختلفة أن العالم لم يمر بها في وقت واحد، وإنما بدأ المرض في الصين وتبعته بسرعة أوروبا من المحيط الأطلنطي إلى جبال الأورال، وفي نفس الوقت تقريبا كانت الولايات المتحدة قد دخلت إلى دائرة الموت وتتصدر أعداد المصابين والموتى.
أصيب العالم المتقدم كله بالكارثة قبل بقية العالم، ويبدو أنه لم يكن هناك سبب لذلك إلا أن التقدم كان يعني الكثير من الاعتماد المتبادل سواء على المواد والأفكار الأولية أو سلاسل الإنتاج أو المنتج النهائي وتوزيعه، وكل ذلك أظهر الأهمية المركزية للصين. ولكن دخول بقية العالم في جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا كان مجرد وقت لا أكثر ولا أقل، ومن ثم بدأت الدول في التساقط الواحدة بعد الأخرى، وأصبح المرض ظاهرة عالمية انقسم العالم إزاءها بين المطالبين بالعزل الكامل للإنسان والوقف التام لحركة الإنتاج أو ما سمي الإغلاق الكامل أو Complete Lockdown، وبين الذين طالبوا مثل السويد بالفتح الكامل الذي ربما يؤدي إلى ما سمي "مناعة القطيع" فيعيش الناس حياتهم ويحافظون على عملهم وإنتاجهم. كثير من الدول حاولت أن تمزج بين النموذجين، والحقيقة أنه بالرغم من ذيوع نموذج الإغلاق والآخر الفتح فإن كل دولة حاولت أن تتعامل مع ظروفها الخاصة وتتآلف معها.
النهاية كانت أن العالم يعيش الأزمة، وبعد ستة شهور من بدايتها يبدو أن العالم قرر التعايش مع المرض حتى ولو أدى الأمر إلى نوع من المعتاد الجديد أو " The New Normal" الذي قوامه فتح الأبواب مع التشدد في اتخاذ الخطوات الاحترازية التي يحمي بها الإنسان نفسه من الفيروس اللعين.
ما فات على المراحل الخمس المختلفة للتعامل مع الأزمات أمران: أولهما أن الأزمة ليست لها بداية أو نهاية، فمن الجائز أن تتكرر الأزمة ذاتها في موجات متتالية. وثانيهما أن الأزمة اختلطت بشدة باقتصاد الدول والاقتصاد الدولي في مجمله. وفي الوقت الذي بدا فيه العالم أنه لا يستطيع العيش بدون العولمة وتكثيف التبادلات التجارية والتفاعلات الاقتصادية، كان العالم يقطع طرق الاتصال عن بعضه البعض، وتغلق المطارات وتتوقف الموانئ عن العمل. ومع شهر مايو بدأت دول العالم المختلفة في الانفتاح التدريجي على العمليات الإنتاجية المختلفة؛ وفي يونيو بدأت بعض الدول في فتح مطاراتها. ولكن نتائج الانفتاح لم تكون سعيدة في كل الدول؛ ووقت كتابة المقال كانت هناك سبع دول في حالة منذرة وهي الهند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وإيران والمكسيك، وروسيا، والولايات المتحدة. الملاحظ هنا أن الصين ليست من هذه الدول، ولا إيطاليا، وكلاهما تزعم قائمة الدول المصابة في شهور الأزمة الأولى. وأن من بينها أربعة دول من دول "البريكس BRICS" الهند والبرازيل وروسيا جنوب إفريقيا. ودولة شرق أوسطية واحدة هي إيران التي هاجمتها مؤخرا موجة ثانية من الفيروس. والقائمة بها دولتان من الدول العظمى في العالم روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الأخيرة تتصدر وقت كتابة المقال قائمة الدول المصابة حيث تعدى عدد الإصابات المليونان، والموتى ١٢٠ ألف نسمة أي ما يزيد عن ضحايا حروب فيتنام وأفغانستان والعراق مجتمعة، وآخر الأنباء فيها أن ١٤ ولاية قد عاودتها موجة الفيروس الثانية مصاحبة لكثير من المظاهرات. والحقيقة أنه ربما كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر الخاسرين من أزمة الكورونا في العالم فقد تأخرت كثيرا في مواجهة الوباء، وعندما جاءتها موجته الثانية كانت الدولة كلها تدخل في واحدة من أكثر أزماتها الداخلية قسوة في أعقاب مقتل "جورج فلويد"، وما نجم عنه من مظاهرات وعنف في كل الولايات الأمريكية تقريبا. ورغم القاعدة العلمية الكبيرة، والجهاز الصحي المتقدم فإن الدولة الأمريكية لا نجحت في إنتاج اللقاح ولا الدواء ولا تطبيق العزل ولا تنظيم التعايش مع الفيروس.
ورغم أن التعامل مع الوباء سوف يكون مؤثرا في كل دول العالم تقريبا وسياساتها الداخلية ونظمها الاقتصادية إلا أنه في الولايات المتحدة أضاف انقساما فوق الانقسام واستقطابا فوق الاستقطاب الشائع. وحتى وقت كتابة هذه السطور فإن الشواهد كلها تشير إلى أن الخسارة في الانتخابات الرئاسية المقبلة سوف تكون من نصيب الجمهوريين ودونالد ترامب، والمكسب سوف يكون لصالح الديمقراطيين وجو بايدن. ومع ذلك فإنه لا يزال مبكرا التنبؤ بنتائج الانتخابات الأمريكية، وربما كان الأهم من هذه الانتخابات هو أن التراجع في الحالة الأمريكية من حيث تماسك النظام السياسي، وازدهار التقدم الاقتصادي، والسمعة الدولية ربما يقود إلى حالة من الانسحاب العالمي التي بدأت بالفعل بالانسحاب من أفغانستان والعراق وسوريا، ومؤخرا سحب عشرة آلاف جندي أمريكي من ألمانيا. وعندما تنسحب أمريكا من أوروبا فإن تغييرات عالمية عميقة سوف تأتي، وعندما يكون ذلك فإن الأزمة العالمية ونتائجها ربما لم تنته بعد؛ فلا تزال الليلة في مطلعها ولم يأت الظلام الحالك بعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة