دبلوماسية الجزائر تتحرك لدعم اتفاق المصالحة في مالي
الجزائر تستأنف دورها لدعم اتفاق المصالحة والسلام في مالي وذلك لتسوية العراقيل التي تعترضه.
عاد الملف المالي ليطرح من جديد على رأس أولويات الدبلوماسية الجزائرية في الأسابيع الأخيرة، من خلال الزيارات المتبادلة بين العاصمتين الجزائر وباماكو.
ووسط اهتمام رسمي لافت، استضافت العاصمة الجزائرية أمس الثلاثاء اجتماعاً رفيع المستوى جمع وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادم ونظيره في دولة مالي تييبيلي درامي.
وعقب جلسة المباحثات بين الوزيرين، كشف وزير الخارجية الجزائري أجندة ومخرجات الاجتماع الثاني بينهما في أقل من شهر، حيث تطرق الجانبان إلى اتفاق السلام والمصالحة في مالي والمراحل التي وصل إليها، وهو الاتفاق الذي وقع في 2015 بعد وساطة دولية قادتها الجزائر.
وأكد بوقادوم في تصريحات صحفية أن اتفاق المصالحة في مالي "في مرحلة التطبيق بين الماليين وكل الأطراف مع دعم المجتمع الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي".
ووصف وزير الخارجية الجزائري علاقات بلاده مع مالي بـ"المحورية"، وشدد على أن الاستقرار والسلم في الجارة الجنوبية للجزائر "امتداد لاستقرارها ولكل المنطقة".
وأضاف أن الجزائر "تعد العلاقات مع المالي محورية وتستحق التدعيم من جميع الأطراف، وأن هذه الزيارة تأتي كمواصلة للحوار الثنائي وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والسياسية التي تجمع البلدين".
واعتبر الخبير الأمني الجزائري عبدالعزيز مجاهد في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن تصريح وزير خارجية الجزائر الذي تحدث فيه عن أن العلاقات مع باماكو "تستحق الدعم من جميع الأطراف" يعد "مؤشراً واعترافاً من الجزائر على النقائص التي تشوب العلاقات الجزائرية - المالية".
وأرجع ذلك إلى ما أسماه "إهمال الجزائر دورها في مالي في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الجزائري المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة سواء من الناحيتين السياسية أو الاقتصادية".
دور بارز
بدوره، كشف وزير الخارجية والتعاون الدولي المالي فحوى مباحثاته مع نظيره الجزائرية التي تطرقت إلى "بعض الصعوبات" أمام أطراف النزاع لتجسيد اتفاق السلام والمصالحة في مالي، دون أن يتطرق إلى تفاصيلها.
وأثنى تييبيلي درامي على الدور الجزائري في حل الأزمة في بلاده، ووصفه بـ"الدور البارز والمفاوض الأساسي في إرساء الاستقرار وتسوية الأزمة المالية".
وعقب جلسة مباحثات موسعة مع نظيره الجزائري، عاد الوزير المالي إلى مسار الوساطات الجزائرية في بلاده في العقود الثلاثة الأخيرة، منذ يناير/كانون الثاني 1991 حين تم التوقيع على "الميثاق الوطني" الموقع بين "حركة تحرير الأزواد" والحكومة المالية، إضافة إلى اتفاق السلم والمصالحة الموقع في يونيو 2015 بباماكو.
وترأس الجزائر لجنة تطبيق الاتفاق في الاتحاد الأفريقي منذ 2015، واعتبر وزير الخارجية المالي الذي استقبل من قبل الرئيس الجزائري المؤقت عبدالقادر بن صالح مساء الأربعاء، أن الجزائر "مفاوض أساسي وترى أن السيادة والوحدة الترابية لمالي غير قابلتين للتفاوض"، مشيراً في السياق إلى أن "القادة الماليين ممتنون كثيرا للجهود التي تقوم بها الجزائر من أجل إرساء الاستقرار وتسوية الأزمة المالية".
ووصف نتائج زيارته الأولى إلى الجزائر بـ"الجيدة"، وكشف اتفاق البلدين على إنشاء لجنة ثنائية تهتم بالمسائل المتعلقة بالتنقل وحركة الهجرة.
أجندة أمنية
واعتبر محللون وخبراء أمنيون جزائريون لـ"العين الإخبارية" أن النشاط الدبلوماسي المكثف بين الجزائر وباماكو مؤشر على "عودة الجزائر إلى الساحة المالية"، مرجعين ذلك إلى "الوضع الأمني الذي تعرفه الحدود الجزائرية المالية التي فرضت نفسها على أولويات الدبلوماسية الجزائرية".
ويقول خبراء أمنيون جزائريون إن مالي "تمثل عمقاً استراتيجياً" للجزائر، خاصة مع الحدود الشاسعة التي تربط البلدين والبالغ طولها 1376 كيلومتراً والقريبة من مواقع استراتيجية نفطية جنوب الجزائر، وهي الحدود التي تشهد في السنوات الأخيرة حالة استنفار أمني من جانب الجزائر، بسبب النشاط المتزايد للجماعات الإرهابية المتمركزة في الشمال المالي.
وتحولت تلك الحدود الأطول للجزائر مع بقية جيرانها في السنوات الأخيرة إلى بؤرة تؤرق السلطات الأمنية الجزائرية، وضبط الجيش الجزائري في السنوات الأخيرة ترسانات أسلحة حربية بمختلف أنواعها، إضافة إلى إحباط تسلل الإرهابيين إلى الأراضي الجزائرية.
مكافحة الإرهاب.. ملف مشترك
وفي تصريح لـ"العين الإخبارية"، اعتبر عبدالعزيز مجاهد الخبير الأمني الجزائري أن علاقات الجزائر مع مالي أوثق مقارنة ببقية جيرانها، مستدلاً على ذلك بمستوى الزيارات المتبادلة مؤخراً بين البلدين.
ويرى الخبير الأمني أن الجزائر "لا يمكنها ترك الساحة المالية أمام دول تدعم صراحة الجماعات الإرهابية بالأسلحة والمال بهدف تقويض أمنها وأمن المنطقة"، وهو ما يفسر تكثيف زيارات كبار المسؤولين في الجزائر وباماكو.
غير أن المحلل السياسي الجزائري الدكتور محمد لعقاب لا يتفق مع تحليلات بعض الخبراء الأمنيين بشأن تحكم الجزائر في الملف المالي وغيابها في السنوات الأخيرة عن مشهد الأزمة المالية، واعتبر أنه "من المبالغة القول إن الجزائر تخلت في السنوات الأخيرة عن دورها في مالي".
وقال في تصريح لـ"العين الإخبارية": "إن الجزائر بقيت محافظة على دورها في دعم الأمن والاستقرار في ليبيا، وزيارات مسؤوليها لم تتوقف رغم الفراغ الذي كانت تعيشه الجزائر على مستوى الرئاسة في عهد بوتفليقة".
ووصف زيارة وزير الخارجية المالي إلى الجزائر بـ"العادية ومن الطبيعي أن تتكثف الزيارات والإجراءات بين دول المنطقة والبلدين تحديداً، لأن مصير كل بلد مرتبط بالآخر".
وأوضح الأكاديمي الجزائري أن العلاقات بين البلدين "حيوية ومصيرية، ويرجع ذلك إلى ارتباط الأمن القومي لكل منهما بالآخر، والجزائر مهتمة بشكل كبير جداً بالشأن المالي، ودبلوماسيتها تقوم بعمل جبار للمساهمة في تحقيق الأمن فيه، لأن بقاء الوضع كما هو عليه يؤثر تأثيراً مباشراً على الأمن القومي الجزائري، فهو يتسبب في تهريب الأسلحة والمخدرات وغيرهما".
وتابع قائلاً "أي انهيار أمني في مالي يعني شيئاً واحداً، وهي أن تصبح مستقطباً للجماعات الإرهابية من كل منطقة في العالم، ودورهم يكمن أيضا في استهداف الجزائر، دون أن ننسى أن الإرهاب أصبح أداة في السياسة الدولية".
واعتبر المحلل السياسي أن الجزائر "ترى في اتفاق المصالحة والسلام في مالي فرصة للحد من النشاط الإرهابي ووضع حد للتدخل الأجنبي في هذا البلد الأفريقي، خاصة أن التدخل الفرنسي في مالي منذ 2013 لم يفلح في وضع حد للانهيار الأمني في شمال مالي، بل تفاقم خاصة في 2019، وبالتالي من مصلحة مالي تجريب حلول أخرى، على رأسها تطبيق اتفاق الجزائر المعطل".
أولوية دبلوماسية
وأشار الدكتور لزهر ماروك أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الجزائري إلى أن جملة من المعطيات حتمت على البلدين تكثيف الزيارات بين العاصمتين.
وأوضح في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن "زيارة وزير الخارجية المالي هي امتداد لزيارة نظيره الجزائري إلى باماكو قبل شهر من اليوم، وهذه الزيارات المكثفة تعكس أهمية العلاقات بينهما في أبعادها الأمنية والسياسية والاقتصادية، لأن الجوار الجغرافي يعد المحدد الأساسي لأهمية هذه العلاقات لأن للجزائر حدودا طويلة مع مالي، وهي تمثل العمق الاستراتيجي للأمن القومي الجزائري، وبالتالي فإن الجزائر ترمي بكل ثقلها من أجل الحفاظ على الأمن في هذا البلد ووحدة أراضيه".
وأشار إلى أن الوضع الأمني في شمال مالي من انتشار السلاح والجماعات الإرهابية والصراع المسلح بين الحكومة المركزية والمتمردين كلها "أوضاع تشكل تهديداً لمالي والجزائر".
واعتبر أن زيارة تييبيلي درامي تندرج في إطار دور الجزائر التي ترأس لجنة السلم والمصالحة "بعيداً عن الصراع المسلح والتدويل الذي تسعى له بعض الأطراف لجعل مالي ساحة من ساحات صراع النفوذ وتصفية الحسابات".
وأشار الأكاديمي الجزائري إلى أن "المستهدف الأول في الساحة المالية هي الجزائر"، ويرى أن هناك "من يريد أن يعمل على خلق قنبلة أمنية تهدد استقرار الجزائر".
وبحسب الدكتور ماروك، فإن الأزمة السياسية التي تمر بها الجزائر لم تمنعها من التخلي عن دورها الإقليمي أو يؤثر عليه، مشيراً إلى أن لبلاده "دوراً أساسياً وفعالاً في منطقة الساحل، والزيارة جاءت لتكريس ذلك الدور".
وأوضح أن الأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر "قد تشكل وضع إغراء لبعض القوى التي تريد إفراغ الدور الإقليمي الجزائري من محتواه أو ضرب استقرارها انطلاقاً من منطقة الساحل، والزيارة في هذا الظرف بالغة الأهمية".