دبلوماسية «الرد بالمثل»..مآلات العلاقة بين الجزائر وفرنسا

فصل جديد من التوتر بين الجزائر وفرنسا يقسم خبراء بين من يرى أن ما يحدث أقرب للأزمة وبين من يعتقد أنه أبعد من القطيعة.
فبينما يرى باحث سياسي جزائري أن التصعيد الأخير يعكس رغبة بلاده في فرض "ندية جديدة" على باريس، يحذر خبراء فرنسيون متخصصون في الشأن الجزائري من تداعيات طويلة الأمد قد تؤثر على المصالح الفرنسية إذا لم يتم احتواء الأزمة سريعًا.
وفي خطوة مفاجئة وُصفت بأنها "رد بالمثل"، أعلنت باريس، مساء الثلاثاء، طرد 12 موظفا قنصليا جزائريا، واستدعت سفيرها للتشاور.
وجاء الإجراء بعد يوم واحد فقط من إعلان الجزائر طرد 12 موظفا دبلوماسيا فرنسيا على أراضيها، في قرارين متتاليين أثارا تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية، وما إن بلغت "نقطة اللاعودة"، أم أن المجال لا يزال مفتوحا أمام احتواء دبلوماسي؟
«مرحلة متقدمة»
في تعقيبه على الموضوع، يرى حسني عبيدي، الخبير السياسي الجزائري وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف، أن التصعيد الأخير بين البلدين، "يعد مرحلة متقدمة في الأزمة والتي لا تعتبر وليدة اللحظة".
ومستدركا، في حديثه مع «العين الإخبارية»: «ولكن مطالبة الرئيس إيمانويل ماكرون للسفير الفرنسي بالجزائر بالعودة للتشاور، وأيضا طرد 12 موظفاً قنصلياً في السفارة والقنصليات الجزائرية بفرنسا، جاء كرد فعل على الموقف الجزائري».
وأضاف عبيدي أن «الموقف الجزائري في المقابل، كان منتظراً، لأن أسس السياسة الخارجية الجزائرية تقوم علي مبدأ المعاملة بالمثل».
وتابع «كان من الصعب على الجزائر أن لا ترد، خصوصا عندما أوقفت فرنسا موظفا قنصليا جزائريا يتمتع بالحصانة الدبلوماسية وأحالته إلى محكمة قضايا الإرهاب».
والجمعة الماضية، وجّهت النيابة العامة الفرنسية المعنية بقضايا الإرهاب الاتهام في باريس إلى ثلاثة رجال، أحدهم موظف في إحدى القنصليات الجزائرية في فرنسا، على خلفية "التوقيف والخطف والاحتجاز التعسفي على ارتباط بمخطط إرهابي".
وبحسب عبيدي، فإن «هذا تصعيد خطير من قبل فرنسا لأن الموظف يتمتع بحصانة دبلوماسية وقنصلية، وكان من المفروض أن يمر عبر السفارة الجزائرية في فرنسا أو القنصلية الجزائرية ووزارة الخارجية».
واعتبر أن «هناك نوافذ أخرى كان يمكن استعمالها بدل توقيف موظف عام جزائري يتمتع بحصانة دبلوماسية».
أزمة ذاكرة
وأشار أستاذ العلاقات الدولية الجزائري إلى أن «هناك أزمة ثقة كبيرة بين البلدين، لأن العلاقات بينهما لا تشبه أي علاقة، ففرنسا استعمرت الجزائر لأكثر من 130 سنة».
«كما أن هناك شخصيات فرنسية مرتبطة تاريخياً وسياسياً بحركة التحرير في الجزائر»، يتابع، «أي أنها لم تُنس بعد حصول الجزائر علي الاستقلال، بدليل أن الداخلية الفرنسية تدير ملف الجزائر، مع أنه من المفترض أن تدير الملف وزارة الخارجية الفرنسية».
ووفق الخبير، فإنه «مع الأسف، مع وصول اليمين المحافظ وأقصى اليمين في فرنسا إلى قبة البرلمان وتأثيرهم الكبير في صناعة السياسة الخارجية الفرنسية، أدى ذلك إلى نوع من الراديكالية في الموقف الفرنسي».
ويرى أن «ماكرون في مرحلة المساكنة السياسية وليس في وضع مريح للسلطة، ولذلك لا يريد الدخول في صراعات داخلية مع أحزاب يمينية ترى أن الجزائر أصبحت أولوية».
ولفت عبيدي إلى أن «الجزائر لم تقبل طريقة تعامل فرنسا مع قضية المرحّلين، لأنه عادة ما يتم إخبار السلطات الجزائرية أو الدبلوماسية بقائمتهم».
ومستدركا: «لكن وزير الداخلية أعطى بُعدا إعلاميا للقضية بإعطاء أمر بالترحيل دون صدور أمر قضائي نهائي، لأن بعض المرحلين قاموا بالاستئناف على قرار ترحيلهم ولذلك فإن الجزائر لم توافق على قرار ترحيل بناء على أمر إداري وليس قضائي باعتبار أن حماية رعاياها مسؤولية باريس».
وفي مارس/آذار الماضي، رفضت الجزائر رسميا تسلم قائمة تضم 60 مواطنا جزائريا ترى فرنسا ضرورة إبعادهم، فيما انتقدت الأولى ما سمته "المقاربة الانتقائية" المعتمدة من باريس، مؤكدة رفضها أي "أسلوب تهديد أو ابتزاز" في معالجة ملفات الهجرة.
وختم الخبير بالدعوة إلى العودة لـ«الحوار الهادئ والمحترم مع الجزائر، وبطريقة ندية في العلاقات، للتعاون من جديد في الملفات المشتركة لا سيما مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي».
«مخاطرة»
من جانبها، ترى سيلين دوما المتخصصة في العلاقات الفرنسية الجزائرية بمعهد العلاقات الدولية، أن ماكرون فوجئ على ما يبدو بسرعة التصعيد من قبل الجزائر.
وقالت دوما، في حديث لـ«العين الإخبارية»، إن «فرنسا لم تتوقع أن ترد الجزائر بهذا الحزم، خاصة في وقت حساس تمر فيه العلاقات الأوروبية-المغاربية (المغرب العربي) بمرحلة إعادة تموضع».
واعتبرت أن طرد 12 دبلوماسيًا جزائريًا «قرار دفاعي، لكنه يحمل مخاطرة كبيرة، فنحن أمام مأزق دبلوماسي. الطرفان يتبادلان الرسائل العنيفة، بينما المصالح الاقتصادية والأمنية في الخلفية مهددة، خصوصًا التعاون في ملف الهجرة ومكافحة الإرهاب في الساحل» الأفريقي.
النفوذ الفرنسي
من جهته، يحذر جان-كريستوف لوفيفر, الباحث الفرنسي في "مؤسسة جان جوريس"، من أن استمرار هذا التوتر سيقوض النفوذ الفرنسي في المغرب العربي.
ويقول: «فرنسا بدأت تفقد موقعها تدريجيًا أمام قوى أخرى كالصين وتركيا وروسيا، وإذا لم يتم احتواء هذه الأزمة مع الجزائر، فستفقد باريس أحد أهم شركائها الاستراتيجيين في الضفة الجنوبية للمتوسط».
لكنه يعتقد أن "الدبلوماسية لم تُغلق أبوابها بعد"، مشيرا إلى أن «الفرنسيين يدركون أن الجزائر قوة إقليمية صاعدة، وقد تكون هذه الأزمة فرصة لإعادة ضبط العلاقة بشروط أكثر توازناً».
نحو قطيعة؟
كما رأى لوفيفر أن الطرفين يتصرفان حتى الآن بحذر نسبي رغم حدة الإجراءات، حيث لم تصدر بيانات رسمية تؤكد إغلاق القنوات الدبلوماسية بالكامل، ما يترك نافذة للتفاوض قائمة، خاصة مع وجود ملفات مشتركة حساسة كالهجرة، الطاقة، والتعاون الأمني في منطقة الساحل.
وتابع: «لكن استمرار الخطاب التصعيدي، سواء في الإعلام أو على لسان المسؤولين، قد يجعل العودة إلى طاولة الحوار أكثر تعقيدًا، ويُبقي العلاقات الفرنسية الجزائرية معلقة بين خيارين: المضي في التصعيد أو الجلوس في نهاية المطاف على طاولة مفاوضات "بشروط جديدة".